للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كان ابن خلدون أول من استخدم المنهج التجريبي١ وعبر عن الجانب الأساسي من التاريخ، الذي أراد أن ينشئ منه علما بقوله: "وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق"، وكان عماده في ذلك في المنهج التجريبي، وهو عملية فكرية، للبحث العلمي، قائمة على اعتبار التاريخ سجلا مليئا بشتى الوقائع المطردة والأحداث المتكررة، التي كان لها وجود حقيقي في شتى المجتمعات على العصور، فجعل منها معطيات بحثية، ونظر إليها على أنها تجارب اجتماعية جرت تلقائيا، وأنها على هذا الأساس تستحق الملاحظة العقلية.

وهكذا فإن ابن خلدون أول من استخدم المنهج في العلوم الاجتماعية لدراسة الحياة الاجتماعية النامية١، فعل ذلك لأنه كان على بينة تامة بالمنهج التجريبي، الذي يقوم على التجريب المحدود زمانا ومكانا وموضوعا، والمقصود المخطط له، ذلك التجريب الذي كان يسميه العلماء المسلمون "التدبير"، وكانوا يعتمدون عليه أساسا في علم الكيمياء، وعرفت التجربة لديهم بأنها واقعة عرضية، وحدث تلقائي اتفاقي، ولذلك يمكن أن نطلق عليها اصطلاحا باسم الوقائع والأحداث التجريبية.

لقد أخذ علماء العرب بالدليل التجريبي إلى جانب الدليل الاستنتاجي، ولم يقف فيه اعتراف على مبدأ التجربة والاختبار، ونضج ما أخذه الغرب عن العالم الإسلامي، وبدأ الغرب يشق طريقه، مبتدئا بالرياضيات والفلك والبصريات. وفي القرن "السابع عشر" كانت أوروبا الغربية قد توافر لديها كل التراث الفكري الذي أنتجته الحضارات السابقة، نهضت نهضة هي فجر العصر العلمي الحديث، في هذا العصر عاش جلبرت وجاليلو وهارفي وكبلر، يؤمنون بالتجربة لكنها تجربة افتراضية، وكان إنتاجهم الأصيل رياضيا لا عمليا. هذا ونشير إلى أن فرنسيس بيكون استشهد في كتاباته بابن الهيثم وابن سينا والكندي وحنين بن إسحاق والبطروجي الفلكي وغيرهم، ومن المؤسف أن باحثينا الآن ما يزالون يرددون ما يقوله الغرب، عن ابتكاراتهم لفروع المعرفة التي يعود الفضل الأول فيها إلى علماء العرب في العصور الوسطى.


١ هو ما تثبت صحته التجارب والإحصاءات والقياس، ليس قياس المناطقة، أي قياس الحاضر على الماضي، إنما هو تقدير بالوحدات تدقير الطول بالأمتار والكتلة بالكيلو غرام هو المنهج التجريبي، أما المنهج التجريبي فهو تناول الظاهرات في إطارها السالف.
٢ ابن خلدون: المقدمة، مرجع سبق ذكره، الفصل الثالث والعشرون، ص٥٠٤-٥١٤.

<<  <   >  >>