للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَارِدٌ: اسْتَوْحَشَ مِنْ تَفَرُّدِهِ بِهَا. فَإِذَا قَامَ عِنْدَهُ بِمِثْلِهَا شَاهِدُ حَالٍ لِمُرِيدٍ آخَرَ صَادِقٍ، قَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهَا: اسْتَأْنَسَ بِهَا أَعْظَمَ اسْتِئْنَاسٍ. وَاسْتَدَلَّ بِشَاهِدِ ذَلِكَ الْمُرِيدِ عَلَى صِحَّةِ شَاهِدِهِ. فَلِذَلِكَ يَشْتَدُّ عَطَشُهُ إِلَى شَاهِدٍ يَرْوِيهِ عَنِ الصَّادِقِينَ.

وَيَحْتَمِلُ: أَنَّهُ مِنَ الرِّيِّ - فَيَكُونُ مَضْمُومَ الْيَاءِ - يَعْنِي: إِذَا حَصَلَ لَهُ الرِّيُّ بِذَلِكَ الشَّاهِدِ. وَنَزَلَ عَلَى قَلْبِهِ مَنْزِلَةَ الْمَاءِ الْبَارِدِ مِنَ الظَّمْآنِ. فَقَرَّرَ عِنْدَهُ صِحَّتَهُ، وَأَنَّهُ شَاهِدُ حَقٍّ.

وَيُرَجِّحُ هَذَا: ذِكْرُ الرَّيِّ مَعَ الْعَطَشِ. وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ: ذِكْرُهُ لَفْظَةَ الرِّيِّ فِي قَوْلِهِ " أَوْ عَطْفَةٍ تَرْوِيهِ " وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ.

قَوْلُهُ " أَوْ إِشَارَةٍ تَشْفِيهِ " أَيْ تَشْفِي قَلْبَهُ مِنْ عِلَّةٍ عَارِضَةٍ. فَإِذَا وَرَدَتْ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ - إِمَّا مِنْ صَادِقٍ مِثْلِهِ، أَوْ مِنْ عَالِمٍ، أَوْ مِنْ شَيْخِ مَسْلَكٍ، أَوْ مِنْ آيَةٍ فَهِمَهَا، أَوْ عِبْرَةٍ ظَفِرَ بِهَا -: اشْتَفَى بِهَا قَلْبُهُ. وَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ.

قَوْلُهُ " أَوْ إِلَى عَطْفَةٍ تَرْوِيهِ " أَيْ عَطْفَةٍ مِنْ جَانِبِ مَحْبُوبِهِ عَلَيْهِ، تَرْوِي لَهِيبَ عَطَشِهِ وَتُبَرِّدُهُ. وَلَا شَيْءَ أَرَوَى لِقَلْبِ الْمُحِبِّ مِنْ عَطْفِ مَحْبُوبِهِ عَلَيْهِ. وَلَا شَيْءَ أَشَدَّ لِلَهِيبِهِ وَحَرِيقِهِ مِنْ إِعْرَاضِ مَحْبُوبِهِ عَنْهُ. وَلِهَذَا كَانَ عَذَابُ أَهْلِ النَّارِ بِاحْتِجَابِ رَبِّهِمْ عَنْهُمْ: أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ. كَمَا أَنَّ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ - بِرُؤْيَتِهِ تَعَالَى وَسَمَاعِ خِطَابِهِ وَرِضَاهُ وَإِقْبَالِهِ - أَعْظَمُ مِنْ نَعِيمِهِمُ الْجُسْمَانِيِّ.

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ عَطَشُ السَّالِكِ إِلَى أَجَلٍ يَطْوِيهِ]

فَصْلٌ

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: عَطَشُ السَّالِكِ إِلَى أَجَلٍ يَطْوِيهِ. وَيَوْمٍ يُرِيهِ مَا يُغْنِيهِ. وَمَنْزِلٍ يَسْتَرِيحُ فِيهِ.

إِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْأَجَلِ الَّذِي يَطْوِيهِ: انْقِضَاءَ مُدَّةِ سِجْنِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ فِي الْبَدَنِ، حَتَّى تَصِلَ إِلَى رَبِّهَا وَتَلْقَاهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ.

وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ: عَطَشَهُ إِلَى مَقْصُودِ السُّلُوكِ مِنْ وُصُولِهِ إِلَى مَحْبُوبِهِ وَقُرَّةِ عَيْنِهِ وَجَمْعِيَّتِهِ عَلَيْهِ. فَهُوَ يَطْوِي مَرَاحِلَ سَيْرِهِ حَثِيثًا، لِيَصِلَ إِلَى هَذَا الْمَقْصُودِ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ إِلَيْهِ سَيْرٌ آخَرُ وَرَاءَ هَذَا السَّيْرِ، مَعَ عَدَمِ مُفَارَقَتِهِ لَهُ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا وَصَلَ بِهِ إِلَيْهِ. فَلَوْ فَارَقَهُ لَانْقَطَعَ انْقِطَاعًا كُلِّيًّا. وَلَكِنْ يَبْقَى لَهُ سَيْرٌ، وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ، يَسْبِقُ بِهِ السُّعَاةَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>