للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السَّمْعُ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ خَيْرًا. فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: ٢٣] أَيْ لَجَعَلَهُمْ يَسْمَعُونَ سَمْعَ إِجَابَةٍ وَانْقِيَادٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَأَفْهَمَهُمْ. وَعَلَى هَذَا: يَكُونُ الْمَعْنَى لَأَسْمَعَ قُلُوبَهُمْ. فَإِنَّ سَمَاعَ الْقَلْبِ يَتَضَمَّنُ الْفَهْمَ.

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مُرَادٌ. فَلَوْ عَلِمَ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَفْهَمَهُمْ، وَلَجَعَلَهُمْ يَسْتَجِيبُونَ لِمَا سَمِعُوهُ وَفَهِمُوهُ.

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ سَمَاعَ الْإِجَابَةِ هُوَ سَمَاعُ انْقِيَادِ الْقَلْبِ، وَالرُّوحِ، وَالْجَوَارِحِ، لِمَا سَمِعَتْهُ الْأُذُنَانِ.

قَوْلُهُ: وَيَمْحُو آثَارَ الْوَحْشَةِ، يَعْنِي: يُزِيلُ بَقَايَا الْوَحْشَةِ الَّتِي سَبَّبَهَا تَرْكُ الِانْقِيَادِ التَّامِّ. فَإِنَّهُ عَلَى قَدْرِ فَقْدِ ذَلِكَ: تَكُونُ الْوَحْشَةُ. وَزَوَالُهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالِانْقِيَادِ التَّامِّ.

وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ يَبْقَى عَلَى أَهْلِ الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ آثَارٌ. وَهُمْ أَهْلُ كَشْفِ حِجَابِ الْعِلْمِ. فَإِنَّهُمْ إِذَا انْكَشَفَ عَنْهُمْ حِجَابُ الْعِلْمِ، وَأَفْضَوْا إِلَى الْمَعْرِفَةِ: بَقِيَتْ عَلَيْهِمْ بَقَايَا مِنْ آثَارِ الْحِجَابِ. فَإِذَا حَصَلُوا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ: زَالَتْ عَنْهُمْ تِلْكَ الْبَقَايَا.

وَقَدْ يُوَجَّهُ كَلَامُهُ عَلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ: أَنَّهُ إِذَا دَعَا رَبَّهُ سُبْحَانَهُ. فَسَمِعَ رَبُّهُ دُعَاءَهُ سَمَاعَ إِجَابَةٍ، وَأَعْطَاهُ مَا سَأَلَهُ، عَلَى حَسَبِ مُرَادِهِ وَمَطْلَبِهِ، أَوْ أَعْطَاهُ خَيْرًا مِنْهُ: حَصَلَ لَهُ بِذَلِكَ سُرُورٌ يَمْحُو مِنْ قَلْبِهِ آثَارَ مَا كَانَ يَجِدُهُ مِنْ وَحْشَةِ الْبُعْدِ. فَإِنَّ لِلْعَطَاءِ وَالْإِجَابَةِ سُرُورًا وَأُنْسًا وَحَلَاوَةً. وَلِلْمَنْعِ وَحْشَةً وَمَرَارَةً. فَإِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الدُّعَاءُ، وَتَكَرَّرَ مِنْ رَبِّهِ سَمَاعٌ وَإِجَابَةٌ لِدُعَائِهِ: مَحَا عَنْهُ آثَارَ الْوَحْشَةِ. وَأَبْدَلَهُ بِهَا أُنْسًا وَحَلَاوَةً.

قَوْلُهُ: وَيَقْرَعُ بَابَ الْمُشَاهَدَةِ.

يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مُشَاهَدَةَ حَضْرَةِ الْجَمْعِ الَّتِي يُشَمِّرُ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ عِنْدَهُ. وَإِلَّا فَمُشَاهَدَةُ الْفَضْلِ وَالْمِنَّةِ: قَدْ سَبَقَتْ فِي الدَّرَجَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ. وَانْتَقَلَ الْمُشَاهِدُ لِذَلِكَ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ. وَهُوَ مُشَاهَدَةُ الْحَضْرَةِ الْمَذْكُورَةِ.

قَوْلُهُ " وَيُضْحِكُ الرُّوحَ " يَعْنِي: أَنَّ سَمَاعَ الْإِجَابَةِ يُضْحِكُ الرُّوحَ، لِسُرُورِهَا بِمَا حَصَلَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ السَّمَاعِ. وَإِنَّمَا خَصَّ الرُّوحَ بِالضَّحِكِ: لِيُخْرِجَ بِهِ سُرُورًا يُضْحِكُ النَّفْسَ وَالْعَقْلَ وَالْقَلْبَ. فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ قَبْلَ رَفْعِ الْحِجَابِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ، إِذْ مَحَلُّهُ النَّفْسُ. فَإِذَا ارْتَفَعَ وَمَحَا الشُّهُودُ رَسْمَ النَّفْسِ بِالْكُلِّيَّةِ: كَانَ الْإِدْرَاكُ حِينَئِذٍ بِالرُّوحِ. فَيُضْحِكُهَا بِالسُّرُورِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>