للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي رَبِّهِ وَلَا يَرْتَابُ فِي وُجُودِهِ {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: ١٠] .

قَوْلُهُ: " وَسُقُوطُ شَتَاتِ الْأَسْرَارِ " يَعْنِي: أَنَّ الْخَلَاصَ مِنَ الِاعْتِلَالِ وَالْفَنَاءَ بِاتِّصَالِ الشُّهُودِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ يُسْقِطَانِ عَنْهُ شَتَاتَ الْأَسْرَارِ، وَهُوَ تَفَرُّقُ بَالِهِ وَتَشَتُّتُ قَلْبِهِ فِي الْأَكْوَانِ، فَإِنَّ اتِّصَالَ شُهُودِهِ يَجْمَعُهُ عَلَى الْمَشْهُودِ، كَمَا أَنَّ دَوَامَ الذِّكْرِ الَّذِي تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ وَشُهُودَ الْمَذْكُورِ يَجْمَعُهُ عَلَيْهِ، وَيُسْقِطُ شَتَاتَهُ، فَالشَّتَاتُ مَصْحُوبُ الْغَيْبَةِ، وَسُقُوطُهُ مَصْحُوبُ الْحُضُورِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

قَوْلُهُ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: اتِّصَالُ الْوُجُودِ، وَهَذَا الِاتِّصَالُ لَا يُدْرَكُ مِنْهُ نَعْتٌ وَلَا مِقْدَارٌ، إِلَّا اسْمٌ مُعَارٌ، وَلَمْحٌ إِلَيْهِ مُشَارٌ، يَقُولُ: لِمَا يُعْهَدُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاتِّصَالِ وَكَانَ أَعَزَّ شَيْءٍ وَأَغْرَبَهُ عَنِ النُّفُوسِ عِلْمًا وَحَالًا لَمْ تَفِ الْعِبَارَةُ بِكَشْفِهِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ لَمَلُومٌ وَالْعِبَارَةَ فَتَّانَةٌ، إِمَّا أَنْ تُزِيغَ إِلَى زِيَادَةِ مَفْسَدَةٍ أَوْ نَقْصٍ مُخِلٍّ، أَوْ تَعْدِلَ بِالْمَعْنَى إِلَى غَيْرِهِ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي تُمْكِنُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ غَلَبَهُ نُورُ الْقُرْبِ، وَتَمَكُّنُ الْمَحَبَّةِ، وَقُوَّةُ الْأُنْسِ، وَكَمَالُ الْمُرَاقَبَةِ، وَاسْتِيلَاءُ الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ، فَيَذْهَبُ الْعَبْدُ عَنْ إِدْرَاكِهِ بِحَالِهِ لِمَا قَهَرَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَيَبْقَى بِوُجُودٍ آخَرَ غَيْرَ وُجُودِهِ الطَّبِيعِيِّ.

وَمَا أَظُنُّكَ تُصَدِّقُ بِهَذَا، وَأَنَّهُ يَصِيرُ لَهُ وُجُودٌ آخَرُ، وَتَقُولُ: هَذَا خَيَالٌ وَوَهْمٌ، فَلَا تَعْجَلْ بِإِنْكَارِ مَا لَمْ تُحِطْ بِعِلْمِهِ، فَضْلًا عَنْ ذَوْقِ حَالِهِ، وَأَعْطِ الْقَوْسَ بَارِيهَا، وَخَلِّ الْمَطَايَا وَحَادِيهَا، فَلَوْ أَنْصَفْتَ لَعَرَفْتَ أَنَّ الْوُجُودَ الْحَاصِلَ لَمُعَذَّبٌ مُضَيَّقٌ عَلَيْهِ فِي أَسْوَأِ حَالٍ، وَأَضْيَقِ سِجْنٍ، وَأَنْكَدِ عَيْشٍ، إِذَا فَارَقَ هَذِهِ الْحَالَ، وَصَارَ إِلَى مُلْكٍ هَنِيٍّ وَاسِعٍ، نَافِذَةٌ فِيهِ كَلِمَتُهُ مُطَاعٌ أَمْرُهُ، قَدِ انْقَادَتْ لَهُ الْجُيُوشُ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، فَإِنَّ وُجُودَهُ حِينَئِذٍ غَيْرُ الْوُجُودِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَهَذَا تَشْبِيهٌ عَلَى التَّقْرِيبِ، وَإِلَّا فَالْأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ، فَلِهَذَا قَالَ: " لَا يُدْرَكُ مِنْهُ نَعْتٌ " يُطَابِقُهُ وَيُحِيطُ بِهِ، فَإِنَّ الْأُمُورَ الْعَظِيمَةَ جِدًّا نَعْتُهَا لَا يَكْشِفُ حَقِيقَتَهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا الْأَسْمَاءُ، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ بَعْضَ لَوَازِمِهَا وَمُتَعَلِّقَاتِهَا، فَيَدُلُّ بِالْمَذْكُورِ عَلَى غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ: " وَلَا مِقْدَارَ " يُرِيدُ: مِقْدَارَ الشَّرَفِ وَالْمَنْزِلَةِ، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ كَبِيرُ الْمِقْدَارِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>