للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ لِلْأُمَّةِ عَلَى لِسَانِهِ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام: ٤٦] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} [يونس: ١٦] وَيَعْلَمُ الْعَبْدُ أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّبُّ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنْ شَوَاهِدِ مَعْرِفَتِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ: هِيَ مَعَالِمُ يَهْتَدِي بِهَا عِبَادُهُ إِلَيْهِ، وَيَعْرِفُونَ بِهَا كَمَالَهُ وَجَلَالَهُ وَعَظَمَتَهُ، فَإِذَا تَيَقَّنُوا صِدْقَهُ وَلَمْ يَشُكُّوا فِيهِ، وَتَفَطَّنُوا لِآثَارِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي سِوَاهُمُ؛ انْضَمَّ شَاهِدُ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ إِلَى شَاهِدِ الْوَحْيِ وَالشَّرْعِ، فَانْتَقَلُوا حِينَئِذٍ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الْعِيَانِ، فَالْعِبَارَاتُ مَعَالِمُ عَلَى الْحَقَائِقِ الْمَطْلُوبَةِ، وَالْمَعَالِمُ هِيَ الْأَمَارَاتُ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا الْمَطْلُوبُ، فَإِذَا أَوْصَلَ الْعَارِفُ كُلَّ مَعْنًى مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى مَقْصُودِهِ، وَصَرَفَ هِمَّتَهُ إِلَى مُجْرِيهِ وَنَاصِبِهِ وَمَصْدَرِهِ؛ اجْتَمَعَ هَمُّهُ عَلَيْهِ، وَتَمَكَّنَ فِي مَعْرِفَةِ الذَّاتِ الَّتِي لَهَا صِفَاتُ الْكَمَالِ، وَنُعُوتُ الْجَلَالِ.

وَمَقْصُودُهُ: أَنْ يُبَيِّنَ فِي هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ حَالَ صَاحِبِ مَعْرِفَةِ الذَّاتِ، وَكَيْفَ تَتَرَتَّبُ الْأَشْيَاءُ فِي نَظَرِهِ، وَيَتَرَقَّى فِيهَا إِلَى الْمَقْصُودِ؟

مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّوَاهِدَ أَرْسَلَتْهُ إِلَى الصِّفَاتِ بِإِرْسَالِهَا عَلَيْهَا، فَانْتَقَلَ مِنْ مُشَاهَدَتِهَا إِلَى مُشَاهَدَةِ الصِّفَاتِ، وَالْوَسَائِطُ الَّتِي كَانَ يَرَاهَا آيَةً عَلَى الْمَدَارِجِ، انْتَقَلَ فَانْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى الْمَدَارِجِ وَلَمْ يَلْقَهَا، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَا هِيَ آيَةٌ لَهُ، وَالْعِبَارَاتُ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ أَلْفَاظًا خَارِجَةً عَنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ صَارَتْ أَمَارَاتٍ تَوَصِّلُهُ إِلَى الْحَقِيقَةِ الْمُعَبِّرِ عَنْهَا، فَبِهَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ يَصِيرُ بِهَا مِنْ أَهْلِ مَعْرِفَةِ الذَّاتِ عِنْدَهُ.

قَوْلُهُ " وَهَذِهِ مَعْرِفَةُ الْخَاصَّةِ الَّتِي تُؤْنَسُ مِنْ أُفُقِ الْحَقِيقَةِ " أَيْ تُدْرَكُ وَتُحَسُّ مِنْ نَاحِيَةِ الْحَقِيقَةِ، وَ " الْإِينَاسُ " الْإِدْرَاكُ وَالْإِحْسَاسُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: ٦] وَقَالَ مُوسَى: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه: ١٠] وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْعَارِفَ إِذَا عَلَّقَ هَمَّهُ بِأُفُقِ الْحَقِيقَةِ، وَأَعْرَضَ عَنِ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِطِ - لَا إِعْرَاضَ جُحُودٍ وَإِنْكَارٍ، بَلْ إِعْرَاضَ اشْتِغَالٍ، وَنَظَرٍ إِلَى عَيْنِ الْمَقْصُودِ - أَوْصَلَهُ ذَلِكَ إِلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ الْجَامِعَةِ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>