للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِحَيْثُ يَذْهَلُ لُبُّهُ عَنْ شُعُورِهِ بِطَلَبِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ.

وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى رَبِّهِ، وَتَفَقَّدَ أَحْوَالَهُ، وَتَمَكَّنَ مِنْ شُهُودِ قِيَامِ رَبِّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ: مُكَابِدًا وَصَابِرًا وَمُرَابِطًا، فَإِذَا صَبَرَ وَصَابَرَ وَرَابَطَ - صَبَرَ فِي نَفْسِهِ وَصَابَرَ عَدُوَّهُ، وَرَابَطَ عَلَى ثَغْرِ قَلْبِهِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ خَاطِرٌ لَا يُحِبُّهُ وَلَيُّهُ الْحَقُّ - ظَهَرَ حِينَئِذٍ فِي قَلْبِهِ نُورٌ مِنْ إِقْبَالِهِ عَلَى رَبِّهِ، فَإِذَا قَوِيَ ذَلِكَ النُّورُ غَيَّبَهُ عَنْ وُجُودِهِ الذِّهْنِيِّ، وَسَرَى بِهِ فِي مَطَاوِي الْغَيْبِ، فَحِينَئِذٍ يَصْفُو لَهُ إِقْبَالُهُ عَلَى رَبِّهِ، فَإِذَا صَفَا لَهُ ذَلِكَ غَابَ عَنْ وُجُودِهِ الْعَيْنِيِّ وَالذِّهْنِيِّ، فَغَابَ بِنُورِ إِقْبَالِهِ عَلَى رَبِّهِ بِوُصُولِ خَالِصِ الذِّكْرِ وَصَافِيهِ إِلَى قَلْبِهِ، حَيْثُ خَلَا مِنْ كُلِّ شَاغِلٍ مِنَ الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ وَالذِّهْنِيِّ، وَصَارَ وَاحِدًا لِوَاحِدٍ، فَيَسْتَوْلِي نُورُ الْمُرَاقَبَةِ عَلَى أَجْزَاءِ بَاطِنِهِ، فَيَمْتَلِئُ قَلْبُهُ مِنْ نُورِ التَّوَجُّهِ، بِحَيْثُ يَغْمُرُ قَلْبَهُ، وَيَسْتُرُهُ عَمَّا سِوَاهُ، ثُمَّ يَسْرِي ذَلِكَ النُّورُ مِنْ بَاطِنِهِ فَيَعُمُّ أَجْزَاءَ ظَاهِرِهِ، فَيَتَشَابَهُ الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ يَفْنَى الْعَبْدُ عَمَّا سِوَاهُ، وَيَبْقَى بِالْمَشْهَدِ الرُّوحِيِّ الذَّاتِيِّ الْمُوجِبِ لِلْمَحَبَّةِ الْخَاصَّةِ الْمُلْهِبَةِ لِلرُّوحِ.

فَمِنْهُمْ مَنْ يَضْعُفُ لِقِلَّةِ الْوَارِدِ، فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّسِعَ لِغَيْرِ مَا بَاشَرَ سِرُّهُ وَقَلْبُهُ مِنْ آثَارِ الْحُبِّ الْخَاصِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْوَى وَيَتَّسِعُ نَظَرُهُ، فَيَجِدُ آثَارَ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ الْمُقَدَّسِ فِي قَلْبِهِ وَرُوحِهِ، وَيَجِدُ الْعُبُودِيَّةَ وَالْمَحَبَّةَ، وَالدُّعَاءَ وَالِافْتِقَارَ، وَالتَّوَكُّلَ وَالْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ، وَسَائِرَ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ قَائِمَةً بِقَلْبِهِ، لَا تَشْغَلُهُ عَنْ مَشْهَدِ الرُّوحِ، وَلَا تَسْتَغْرِقُ مَشْهَدَ الرُّوحِ عَنْهُ، وَيَجِدُ مُلَاحَظَتَهُ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي حَاضِرًا فِي جِذْرِ قَلْبِهِ حَيْثُ نَزَلَتِ الْأَمَانَةُ، فَلَا يَشْغَلُهُ مَشْهَدُ الرُّوحِ الْمُسْتَغْرِقُ، وَلَا مَشْهَدُ الْقَلْبِ عَنْ مُلَاحَظَةِ مَرَاضِي الرَّبِّ تَعَالَى وَمَحَابِّهِ وَحَقِّهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَيَجِدُ تَرْكَ التَّدْبِيرِ وَالِاخْتِيَارِ وَصِحَّةَ التَّفْوِيضِ مَوْجُودًا فِي مَحَلِّ نَفْسِهِ، فَيُعَامِلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ، بِحَيْثُ لَا تَشْغَلُهُ مُشَاهَدَةُ الْأُولَى عَنْهُ، وَيَقُومُ بِمُلَاحَظَةِ عَقْلِهِ لِأَسْرَارِ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَلَا يَحْجُبُهُ ذَلِكَ كُلُّهُ عَنْ مُلَاحَظَةِ عُبُودِيَّتِهِ، فَيَبْقَى مَغْمُورَ الرُّوحِ بِمُلَاحَظَةِ الْفَرْدَانِيَّةِ وَجَلَالِهَا وَكَمَالِهَا وَجَمَالِهَا، قَدِ اسْتَغْرَقَتْهُ مَحَبَّتُهُ وَالشَّوْقُ إِلَيْهِ، مَعْمُورَ الْقَلْبِ بِعِبَادَاتِ الْقُلُوبِ مَعْمُورَ الْقَلْبِ بِمُلَاحَظَةِ الْحِكْمَةِ وَمَعَانِي الْخِطَابِ، طَاهِرَ الْقَلْبِ عَنْ سَفْسَافِ الْأَخْلَاقِ، مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَ الْخَلْقِ، قَدْ صَارَ عَبْدًا مَحْضًا لِرَبِّهِ بِرُوحِهِ وَقَلْبِهِ وَعَقْلِهِ، وَنَفْسِهِ وَبَدَنِهِ وَجَوَارِحِهِ، قَدْ قَامَ كُلٌّ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، بِحَيْثُ لَا تَحْجُبُهُ عُبُودِيَّةُ بَعْضِهِ عَنْ عُبُودِيَّةِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، قَدْ فَنِيَ عَنْ نَفْسِهِ وَبَقِيَ بِرَبِّهِ، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْكِتَّانِيُّ: جَرَتْ مَسْأَلَةٌ بِمَكَّةَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ فِي الْمَحَبَّةِ، فَتَكَلَّمَ الشُّيُوخُ فِيهَا، وَكَانَ الْجُنَيْدُ أَصْغَرَهُمْ سِنًّا، فَقَالُوا لَهُ: هَاتِ مَا عِنْدَكَ يَا عِرَاقِيُّ، فَأَطْرَقَ سَاعَةً، وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ: عَبْدٌ ذَاهِبٌ عَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>