للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَا شَمَالًا، وَلَا اتَّخَذَ سِوَاهُ رَبًّا وَلَا وَكِيلًا، وَلَا حَبِيبًا وَلَا مُدَبِّرًا، وَلَا حَكَمًا وَلَا نَاصِرًا وَلَا رَازِقًا.

وَجَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَرَاتِبِ الْوُصُولِ إِنَّمَا هِيَ شَوَاهِدُ وَأَمْثِلَةٌ إِذَا تَجَلَّتْ لَهُ الْحَقَائِقُ فِي الْغَيْبِ - بِحَسْبِ اسْتِعْدَادِهِ وَلُطْفِهِ وَرِقَّتِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهَا - ظَهَرَ مِنْ تَجَلِّيهَا شَاهِدٌ فِي قَلْبِهِ، وَذَلِكَ الشَّاهِدُ دَالٌّ عَلَيْهَا لَيْسَ هُوَ عَيْنَهَا، فَإِنَّ نُورَ الْجَلَالِ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ هُوَ نُورَ ذِي الْجَلَالِ فِي الْخَارِجِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا تَقُومُ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَلَوْ ظَهَرَ لِلْوُجُودِ لَتَدَكْدَكَ، لَكِنَّهُ شَاهِدٌ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الْمَثَلَ الْأَعْلَى شَاهِدٌ دَالٌّ عَلَى الذَّاتِ، وَالْحَقُّ وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ، مُنَزَّهٌ عَنْ حُلُولٍ وَاتِّحَادٍ، وَمُمَازَجَةٍ لِخَلْقِهِ، وَإِنَّمَا تِلْكَ رَقَائِقُ وَشَوَاهِدُ تَقُومُ بِقَلْبِ الْعَارِفِ، تَدُلُّ عَلَى قُرْبِ الْأَلْطَافِ مِنْهُ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ حَيْثُ يَرَاهَا، وَإِذَا فَنِيَ فَإِنَّمَا يَفْنَى بِحَالِ نَفْسِهِ لَا بِاللَّهِ وَلَا فِيهِ، وَإِذَا بَقِيَ فَإِنَّمَا يَبْقَى بِحَالِهِ هُوَ وَوَصْفِهِ، لَا بِبَقَاءِ رَبِّهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَا يَبْقَى بِاللَّهِ إِلَّا اللَّهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْوُصُولُ حَقٌّ، يَجِدُ الْوَاصِلُ آثَارَ تَجَلِّي الصِّفَاتِ فِي قَلْبِهِ، وَآثَارَ تَجَلِّي الْحَقِّ فِي قَلْبِهِ، وَيُوقِفُ الْقَلْبَ فَوْقَ الْأَكْوَانِ كُلِّهَا بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وَمِنْ هُنَاكَ يُكَاشَفُ بِآثَارِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَيَجِدُ الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ تَحْتَ مَشْهَدِ قَلْبِهِ حُكْمًا، وَلَيْسَ الَّذِي يَجِدُهُ تَحْتَ قَلْبِهِ حَقِيقَةً الْعَرْشَ وَالْكُرْسِيَّ، بَلْ شَاهِدٌ وَمِثَالٌ عِلْمِيٌّ، يَدُلُّ عَلَى قُرْبِ قَلْبِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَقُرْبِ رَبِّهِ مِنْ قَلْبِهِ، وَبَيْنَ الذَّوْقَيْنِ تَفَاوُتٌ، فَإِذَا قَرُبَ الرَّبُّ تَعَالَى مِنْ قَلْبِ عَبْدِهِ بَقِيَتِ الْأَكْوَانُ كُلُّهَا تَحْتَ مَشْهَدِ قَلْبِهِ، وَحِينَئِذٍ يَطْلُعُ فِي أُفُقِهِ شَمْسُ التَّوْحِيدِ، فَيَنْقَشِعُ بِهَا ضَبَابُ وُجُودِهِ وَيَضْمَحِلُّ وَيَتَلَاشَى، وَذَاتُهُ وَحَقِيقَتُهُ مَوْجُودَةٌ بَائِنَةٌ عَنْ رَبِّهِ، وَرَبُّهُ بَائِنٌ عَنْهُ، فَحِينَئِذٍ يَغِيبُ الْعَبْدُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَفْنَى، وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ بَاقٍ، غَيْرُ فَانٍ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ فِي سِرِّهِ غَيْرُ اللَّهِ، قَدْ فَنِيَ فِيهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ.

نَعَمْ قَدْ يَتَّفِقُ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ لَا يَجِدَ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ فَذَلِكَ لِاسْتِغْرَاقِ قَلْبِهِ فِي مَشْهُودِهِ وَمَوْجُودِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لَكَانَ الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْحَالِ خَالِقًا بَارِئًا مُصَوِّرًا أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا.

فَعَلَيْكَ بِهَذَا الْفُرْقَانِ، وَاحْذَرْ فَرِيقَيْنِ هُمَا أَعْدَى عَدُوٍّ لِهَذَا الشَّأْنِ: فَرِيقَ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعَطِّلَةِ، الَّتِي لَيْسَ عِنْدَهَا فَوْقَ الْعَرْشِ إِلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ، فَشَمُّ رَائِحَةِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَمْكِنَةِ حَرَامٌ عَلَيْهَا، وَفَرِيقَ أَهْلِ الِاتِّحَادِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَأَنَّ الْعَبْدَ يَنْتَهِي فِي هَذَا السَّفَرِ إِلَى أَنْ يَشْهَدَ وُجُودَهُ هُوَ عَيْنَ وُجُودِ الْحَقِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَعَيْشُكَ بِجَهْلِكَ خَيْرٌ مِنْ مَعْرِفَةِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَانْقِطَاعُكَ مَعَ الشَّهَوَاتِ خَيْرُكَ مَعَهُمَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>