للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَرَاهَةٌ لِأَمْرَيْنِ مَوْجُودَيْنِ، اجْتَمَعَا فِي الْمَشِيئَةِ، وَافْتَرَقَا فِي الْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهَةِ، وَهَذَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ جَمِيعُهُ.

وَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ عَلَى قَوْلِهِمْ: هَذَا الْفِعْلُ يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَهَذَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيُبْغِضُهُ وَفُلَانٌ يَفْعَلُ مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِذِكْرِ سُخْطِهِ وَغَضَبِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَذَلِكَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعَذَابُ وَاللَّعْنَةُ، لَا أَنَّ السُّخْطَ هُوَ نَفْسُ الْعَذَابِ وَاللَّعْنَةِ بَلْ هُمَا أَثَرُ السُّخْطِ وَالْغَضَبِ وَمُوجَبُهُمَا، وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: ٩٣] فَفَرَّقَ بَيْنَ عَذَابِهِ وَغَضَبِهِ وَلَعْنَتِهِ، وَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ غَيْرَ الْآخَرِ.

وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سُخْطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ» .

فَتَأَمَّلْ ذِكْرَ اسْتِعَاذَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَةِ الرِّضَا مِنْ صِفَةِ السُّخْطِ وَبِفِعْلِ الْمُعَافَاةِ مِنْ فِعْلِ الْعُقُوبَةِ، فَالْأَوَّلُ لِلصِّفَةِ، وَالثَّانِي لِأَثَرِهَا الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا، ثُمَّ رَبَطَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ وَحْدَهُ، لَا إِلَى غَيْرِهِ، فَمَا أَعُوذُ مِنْهُ وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِكَ وَإِرَادَتِكَ، وَمَا أَعُوذُ بِهِ مِنْ رِضَاكَ وُمُعَافَاتِكَ هُوَ بِمَشِيئَتِكَ وَإِرَادَتِكَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَرْضَى عَنْ عَبْدِكَ وَتُعَافِيَهُ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَغْضَبَ عَلَيْهِ وَتُعَاقِبَهُ، فَإِعَاذَتِي مِمَّا أَكْرَهُ وَأَحْذَرُ، وَمَنْعُهُ أَنْ يَحِلَّ بِي هُوَ بِمَشِيئَتِكَ أَيْضًا، فَالْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ كُلُّهُ بِقَضَائِكَ وَمَشِيئَتِكَ، فَعِيَاذِي بِكَ مِنْكَ عِيَاذِي بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَقُدْرَتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَإِحْسَانِكَ مِمَّا يَكُونُ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَقُدْرَتِكَ وَعَدْلِكَ وَحِكْمَتِكَ، فَلَا أَسْتَعِيذُ بِغَيْرِكَ مِنْ غَيْرِكَ، وَلَا أَسْتَعِيذُ إِلَّا بِكَ مِنْ شَيْءٍ هُوَ صَادِرٌ عَنْ مَشِيئَتِكَ وَخَلْقِكَ، بَلْ هُوَ مِنْكَ، وَلَا أَسْتَعِيذُ بِغَيْرِكَ مِنْ شَيْءٍ هُوَ صَادِرٌ عَنْ مَشِيئَتِكَ وَقَضَائِكَ، بَلْ أَنْتَ الَّذِي تُعِيذُنِي بِمَشِيئَتِكَ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ بِمَشِيئَتِكَ، فَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ.

وَلَا يَعْلَمُ مَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ - مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَارِفِ وَالْعُبُودِيَّةِ - إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>