للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا السَّمَاعُ مِنْهُ فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِوَاسِطَةٍ، فَهُوَ سَمَاعٌ مُقَيَّدٌ، وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَلَا مَطْمَعَ فِيهِ فِي عَالَمِ الْفَنَاءِ، إِلَّا لِمَنِ اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ، وَلَكِنَّ السَّمَاعَ لِكَلَامِهِ كَالسَّمَاعِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ كَلَامُهُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ حَقًّا، فَمَنْ سَمِعَهُ فَلْيُقَدِّرْ نَفْسَهُ كَأَنَّهُ يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ.

هَذَا هُوَ السَّمَاعُ مِنَ اللَّهِ، لَا سَمَاعَ أَرْبَابِ الْخَيَالِ، وَدَعْوَى الْمُحَالِ الْقَائِلِ أَحَدُهُمْ: نَادَانِي فِي سِرِّي، وَخَاطَبَنِي، وَقَالَ لِي، يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنِ الْمُنَادِي لَكَ؟ وَمَنِ الْمُخَاطِبُ، يَا مَخْدُوعُ يَا مَغْرُورُ؟ فَمَا يُدْرِيكَ أَنِدَاءٌ شَيْطَانِيٌّ، أَمْ رَحْمَانِيٌّ؟ وَمَا الْبُرْهَانُ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطِبَ لَكَ هُوَ الرَّحْمَنُ؟

نَعَمْ نَحْنُ لَا نُنْكِرُ النِّدَاءَ وَالْخِطَابَ وَالْحَدِيثَ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي الْمُنَادِي الْمُخَاطِبِ الْمُحَدِّثِ، فَهَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ.

وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَلْيُقَدِّرْ نَفْسَهُ كَأَنَّمَا يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ يُخَاطِبُهُ بِهِ، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ السَّمَاعُ بِهِ وَلَهُ وَفِيهِ ازْدَحَمَتْ مَعَانِي الْمَسْمُوعِ وَلَطَائِفُهُ وَعَجَائِبُهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَازْدَلَفَتْ إِلَيْهِ بِأَيِّهِمَا يَبْدَأُ، فَمَا شِئْتَ مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ، وَتَعَرُّفٍ وَبَصِيرَةٍ، وَهِدَايَةٍ وَغَيْرَةٍ.

وَأَمَّا الْوُقُوفُ عَلَى الْغَايَةِ فِي كُلِّ حِينٍ: فَهُوَ التَّطَلُّبُ وَالسَّفَرُ إِلَى الْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالْمَسْمُوعِ الَّذِي جُعِلَ وَسِيلَةً إِلَيْهَا. وَهُوَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ غَايَةُ كُلِّ مَطْلَبٍ {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: ٤٢] وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ مَرْمَى، وَلَا دُونَهُ مُسْتَقَرٌّ، وَلَا تَقَرُّ الْعَيْنُ بِغَيْرِهِ الْبَتَّةَ، وَكُلُّ مَطْلُوبٍ سِوَاهُ فَظِلٌّ زَائِلٌ، وَخَيَالٌ مُفَارِقٌ مَائِلٌ وَإِنْ تَمَتَّعَ بِهِ صَاحِبُهُ فَمَتَاعُ الْغُرُورِ.

وَأَمَّا الْخِلَافُ مِنَ التَّلَذُّذِ بِالتَّفَرُّقِ: فَالتَّفَرُّقُ فِي مَعَانِي الْمَسْمُوعِ، وَتَنَقُّلُ الْقَلْبِ فِي مَنَازِلِهَا يُوجِبُ لَهُ لَذَّةً، كَمَا هُوَ الْمَأْلُوفُ فِي الِانْتِقَالِ، فَلْيَتَخَلَّصْ مِنْ لَذَّةِ تَفَرُّقِهِ الَّتِي هِيَ حَظُّهُ، إِلَى الْجَمْعِيَّةِ عَلَى الْمَسْمُوعِ بِهِ وَلَهُ وَمِنْهُ.

وَلَمْ يَقُلِ الشَّيْخُ " مِنَ التَّفَرُّقِ " فَإِنَّ الْمَسْمُوعَ إِنَّمَا يُدْرَكُ مَعْنَاهُ وَيُفْهَمُ بِالتَّفَرُّقِ لِتَنَوُّعِهِ، وَلَكِنْ لِيُتَخَلَّصَ مِنْ لَذَّتِهِ، لَا مِنْهُ، لِئَلَّا يَكُونَ مَعَ حَظِّهِ، وَهَذَا مِنْ لُطْفِ أَحْوَالِ السَّامِعِينَ الْمُخْلِصِينَ.

فَصْلٌ.

قَالَ: وَسَمَاعُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ: سَمَاعٌ يَنْفِي الْعِلَلَ عَنِ الْكَشْفِ، وَيَصِلُ الْأَبَدَ إِلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>