للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَيْ يُنَشِّطُهُ لِبَذْلِ جُهْدِهِ لِمَا يَرْجُوهُ مِنْ ثَوَابِ رَبِّهِ. فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ قَدْرَ مَطْلُوبِهِ هَانَ عَلَيْهِ مَا يَبْذُلُ فِيهِ.

وَأَمَّا تَوْلِيدُهُ لِلتَّلَذُّذِ بِالْخِدْمَةِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا طَالَعَ قَلْبُهُ ثَمَرَتَهَا وَحُسْنَ عَاقِبَتِهَا الْتَذَّ بِهَا. وَهَذَا كَحَالِ مَنْ يَرْجُو الْأَرْبَاحَ الْعَظِيمَةَ فِي سَفَرِهِ، وَيُقَاسِي مَشَاقَّ السَّفَرِ لِأَجْلِهَا. فَكُلَّمَا صَوَّرَهَا لِقَلْبِهِ هَانَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْمَشَاقُّ وَالْتَذَّ بِهَا. وَكَذَلِكَ الْمُحِبُّ الصَّادِقُ السَّاعِي فِي مَرَاضِي مَحْبُوبِهِ الشَّاقَّةِ عَلَيْهِ، كُلَّمَا تَأَمَّلَ ثَمَرَةَ رِضَاهُ عَنْهُ وَقَبُولِهِ سَعْيَهُ، وَقُرْبِهِ مِنْهُ تَلَذَّذَ بِتِلْكَ الْمَسَاعِي، وَكُلَّمَا قَوِيَ عِلْمُ الْعَبْدِ بِإِفْضَاءِ ذَلِكَ السَّبَبِ إِلَى الْمُسَبِّبِ الْمَطْلُوبِ، وَقَوِيَ عِلْمُهُ بِقَدْرِ الْمُسَبِّبِ وَقُرْبِ السَّبَبِ مِنْهُ ازْدَادَ الْتِذَاذًا بِتَعَاطِيهِ.

وَأَمَّا إِيقَاظُ الطِّبَاعِ لِلسَّمَاحَةِ بِتَرْكِ الْمَنَاهِي: فَإِنَّ الطِّبَاعَ لَهَا مَعْلُومٌ وَرُسُومٌ تَتَقَاضَاهَا مِنَ الْعَبْدِ. وَلَا تَسْمَحُ لَهُ بِتَرْكِهَا إِلَّا بِعِوَضٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهَا مِنْ مَعْلُومِهَا وَرُسُومِهَا، وَأَجَلُّ عِنْدِهَا مِنْهُ وَأَنْفَعُ لَهَا. فَإِذَا قَوِيَ تَعَلُّقُ الرَّجَاءِ بِهَذَا الْعِوَضِ الْأَفْضَلِ الْأَشْرَفِ سَمَحَتِ الطِّبَاعُ بِتَرْكِ تِلْكَ الرُّسُومِ وَذَلِكَ الْمَعْلُومِ. فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَتْرُكُ مَحْبُوبًا إِلَّا لِمَحْبُوبٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهَا مِنْهُ. أَوْ حَذَرًا مِنْ مُخَوِّفٍ هُوَ أَعْظَمُ مَفْسَدَةً لَهَا مِنْ حُصُولِ مَصْلَحَتِهَا بِذَلِكَ الْمَحْبُوبِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ فَفِرَارُهَا مِنْ ذَلِكَ الْمُخَوِّفِ إِيثَارٌ لِضِدِّهِ الْمَحْبُوبِ لَهَا. فَمَا تَرَكَتْ مَحْبُوبًا إِلَّا لِمَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهَا مِنْهُ. فَإِنَّ مَنْ قُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ لَذِيذٌ يَضُرُّهُ وَيُوجِبُ لَهُ السَّقَمَ. فَإِنَّمَا يَتْرُكُهُ مَحَبَّةً لِلْعَافِيَةِ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ.

[الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ رَجَاءُ أَرْبَابِ الرِّيَاضَاتِ أَنْ يَبْلُغُوا مَوْقِفًا تَصْفُو فِيهِ هِمَمُهُمْ]

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ رَجَاءُ أَرْبَابِ الرِّيَاضَاتِ أَنْ يَبْلُغُوا مَوْقِفًا تَصْفُو فِيهِ هِمَمُهُمْ، بِرَفْضِ الْمَلْذُوذَاتِ، وَلُزُومِ شُرُوطِ الْعِلْمِ، وَاسْتِقْصَاءِ حُدُودِ الْحَمِيَّةِ.

أَرْبَابُ الرِّيَاضَاتِ: هُمُ الْمُجَاهِدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَرْكِ مَأْلُوفَاتِهَا، وَالِاسْتِبْدَالِ بِهَا مَأْلُوفَاتٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْهَا وَأَكْمَلُ، فَرَجَاؤُهُمْ أَنْ يَبْلُغُوا مَقْصُودَهُمْ بِصَفَاءِ الْوَقْتِ، وَالْهِمَّةِ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالْمَلْذُوذَاتِ. وَتَجْرِيدِ الْهَمِّ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا. وَبِلُزُومِ شُرُوطِ الْعِلْمِ. وَهُوَ الْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ الْأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ. فَإِنَّ رَجَاءَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِحُصُولِ ذَلِكَ لَهُمْ، وَاسْتِقْصَاءِ حُدُودِ الْحَمِيَّةِ.

وَ " الْحَمِيَّةُ " الْعِصْمَةُ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ تَنَاوُلِ مَا يُخْشَى ضَرَرُهُ آجِلًا أَوْ عَاجِلًا. وَلَهُ حُدُودٌ مَتَى خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْهَا انْتَقَضَ عَلَيْهِ مَطْلُوبُهُ، وَالْوُقُوفُ عَلَى حُدُودِهَا بِلُزُومِ شُرُوطِ الْعِلْمِ.

وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي تِلْكَ الْحُدُودِ بِأَمْرَيْنِ: بَذْلِ الْجُهْدِ فِي مَعْرِفَتِهَا عِلْمًا، وَأَخْذِ النَّفْسِ

<<  <  ج: ص:  >  >>