للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: إِثْبَاتٌ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ.

فَإِنَّ مَنْ نَفَاهَا فَتَوَكُّلُهُ مَدْخُولٌ. وَهَذَا عَكْسُ مَا يَظْهَرُ فِي بَدَوَاتِ الرَّأْيِ: أَنَّ إِثْبَاتَ الْأَسْبَابِ يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ، وَأَنَّ نَفْيَهَا تَمَامُ التَّوَكُّلِ.

فَاعْلَمْ أَنَّ نُفَاةَ الْأَسْبَابِ لَا يَسْتَقِيمُ لَهُمْ تَوَكُّلٌ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ التَّوَكُّلَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي حُصُولِ الْمُتَوَكَّلِ فِيهِ. فَهُوَ كَالدُّعَاءِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا فِي حُصُولِ الْمَدْعُوِّ بِهِ. فَإِذَا اعْتَقَدَ الْعَبْدُ أَنَّ تَوَكُّلَهُ لَمْ يَنْصِبْهُ اللَّهُ سَبَبًا. وَلَا جَعْلَ دُعَاءَهُ سَبَبًا لِنَيْلِ شَيْءٍ. فَإِنَّ الْمُتَوَكِّلَ فِيهِ الْمَدْعُوَّ بِحُصُولِهِ إِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ حَصَلَ، تَوَكَّلَ أَوْ لَمْ يَتَوَكَّلْ، دَعَا أَوْ لَمْ يَدْعُ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَمْ يَحْصُلْ، تَوَكَّلَ أَيْضًا أَوْ تَرَكَ التَّوَكُّلَ.

وَصَرَّحَ هَؤُلَاءِ أَنَّ التَّوَكُّلَ وَالدُّعَاءَ عُبُودِيَّةٌ مَحْضَةٌ. لَا فَائِدَةَ لَهُمَا إِلَّا ذَلِكَ. وَلَوْ تَرَكَ الْعَبْدُ التَّوَكُّلَ وَالدُّعَاءَ مَا فَاتَهُ شَيْءٌ مِمَّا قُدِّرَ لَهُ. وَمِنْ غُلَاتِهِمْ مَنْ يَجْعَلُ الدُّعَاءَ بِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ؛ إِذْ هُوَ مَضْمُونُ الْحُصُولِ.

وَرَأَيْتُ بَعْضَ مُتَعَمِّقِي هَؤُلَاءِ - فِي كِتَابٍ لَهُ - لَا يُجَوِّزُ الدُّعَاءَ بِهَذَا. وَإِنَّمَا يُجَوِّزُهُ تِلَاوَةً لَا دُعَاءً. قَالَ: لِأَنَّ الدُّعَاءَ بِهِ يَتَضَمَّنُ الشَّكَّ فِي وُقُوعِهِ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ. وَالشَّكُّ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ شَكٌّ فِي خَبَرِ اللَّهِ. فَانْظُرْ إِلَى مَا قَادَ إِنْكَارُ الْأَسْبَابِ مِنَ الْعَظَائِمِ، وَتَحْرِيمِ الدُّعَاءِ بِمَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِالدُّعَاءِ بِهِ وَبِطَلَبِهِ. وَلَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ - مِنْ عَهْدِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى الْآنَ - يَدْعُونَ بِهِ فِي مَقَامَاتِ الدُّعَاءَ. وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الدَّعَوَاتِ.

وَجَوَابُ هَذَا الْوَهْمِ الْبَاطِلِ أَنْ يُقَالَ: بَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْقِسْمَيْنِ لَمْ تَذْكُرُوهُ. وَهُوَ الْوَاقِعُ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَضَى بِحُصُولِ الشَّيْءِ عِنْدَ حُصُولِ سَبَبِهِ مِنَ التَّوَكُّلِ وَالدُّعَاءِ. فَنَصَبَ الدُّعَاءَ وَالتَّوَكُّلَ سَبَبَيْنِ لِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ.

وَقَضَى اللَّهُ بِحُصُولِهِ إِذَا فَعَلَ الْعَبْدُ سَبَبَهُ. فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِالسَّبَبِ امْتَنَعَ الْمُسَبَّبُ. وَهَذَا كَمَا قَضَى بِحُصُولِ الْوَلَدِ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ مَنْ يُحِبُّهَا. فَإِذَا لَمْ يُجَامِعْ لَمْ يُخْلَقِ الْوَلَدُ.

وَقَضَى بِحُصُولِ الشِّبَعِ إِذَا أَكَلَ، وَالرِّيِّ إِذَا شَرِبَ. فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَشْبَعْ وَلَمْ يُرْوَ.

وَقَضَى بِحُصُولِ الْحَجِّ وَالْوُصُولِ إِلَى مَكَّةَ إِذَا سَافَرَ وَرَكِبَ الطَّرِيقَ، فَإِذَا جَلَسَ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَكَّةَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>