للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَكَارِهِ فِي مُرَادِ الْمَحْبُوبِ يُعْلَمُ صِحَّةُ مَحَبَّتِهِ.

وَمِنْ هَاهُنَا كَانَتْ مَحَبَّةُ أَكْثَرِ النَّاسِ كَاذِبَةً. لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمُ ادَّعَوْا مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعَالَى. فَحِينَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَكَارِهِ انْخَلَعُوا عَنْ حَقِيقَةِ الْمَحَبَّةِ. وَلَمْ يَثْبُتْ مَعَهُ إِلَّا الصَّابِرُونَ. فَلَوْلَا تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ، وَتَجَشُّمُ الْمَكَّارِهِ بِالصَّبْرِ لَمَا ثَبَتَتْ صِحَّةُ مَحَبَّتِهِمْ. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ أَعْظَمَهُمْ مَحَبَّةً أَشَدُّهُمْ صَبْرًا.

وَلِهَذَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ خَاصَّةَ أَوْلِيَائِهِ وَأَحْبَابِهِ. فَقَالَ عَنْ حَبِيبِهِ أَيُّوبَ {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: ٤٤] ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ. فَقَالَ: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: ٤٤] .

وَأَمَرَ أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ بِالصَّبْرِ لِحُكْمِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ صَبْرَهُ بِهِ. وَأَثْنَى عَلَى الصَّابِرِينَ أَحْسَنَ الثَّنَاءِ. وَضَمِنَ لَهُمْ أَعْظَمَ الْجَزَاءِ. وَجَعَلَ أَجْرَ غَيْرِهِمْ مَحْسُوبًا، وَأَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَقَرَنَ الصَّبْرَ بِمَقَامَاتِ الْإِسْلَامِ، وَالْإِيمَانِ، وَالْإِحْسَانِ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَجَعَلَهُ قَرِينَ الْيَقِينِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالْإِيمَانِ، وَالْأَعْمَالِ، وَالتَّقْوَى.

وَأَخْبَرَ أَنَّ آيَاتِهِ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا أُولُو الصَّبْرِ. وَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّبْرَ خَيْرٌ لِأَهْلِهِ. وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ فِي الْجَنَّةِ بِصَبْرِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ.

وَلَيْسَ فِي اسْتِكْرَاهِ النُّفُوسِ لِأَلَمِ مَا تَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَإِحْسَاسِهَا بِهِ، مَا يَقْدَحُ فِي مَحَبَّتِهَا وَلَا تَوْحِيدِهَا. فَإِنَّ إِحْسَاسَهَا بِالْأَلَمِ، وَنَفْرَتَهَا مِنْهُ: أَمْرٌ طَبْعِيٌّ لَهَا. كَاقْتِضَائِهَا لِلْغِذَاءِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. وَتَأَلُّمِهَا بِفَقْدِهِ. فَلَوَازِمُ النَّفْسِ لَا سَبِيلَ إِلَى إِعْدَامِهَا أَوْ تَعْطِيلِهَا بِالْكُلِّيَّةِ. وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ نَفْسًا إِنْسَانِيَّةً. وَلَارْتَفَعَتِ الْمِحْنَةُ. وَكَانَتْ عَالَمًا آخَرَ.

وَالصَّبْرُ وَالْمَحَبَّةُ لَا يَتَنَاقَضَانِ. بَلْ يَتَوَاخَيَانِ وَيَتَصَاحَبَانِ. وَالْمُحِبُّ صَبُورٌ بَلْ عِلَّةُ الصَّبْرِ فِي الْحَقِيقَةِ، الْمُنَاقِضَةُ لِلْمَحَبَّةِ، الْمُزَاحِمَةُ لِلتَّوْحِيدِ - أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ غَيْرَ إِرَادَةِ رِضَا الْمَحْبُوبِ. بَلْ إِرَادَةِ غَيْرِهِ، أَوْ مُزَاحَمَتِهِ بِإِرَادَةِ غَيْرِهِ، أَوِ الْمُرَادِ مِنْهُ. لَا مُرَادِهِ. هَذِهِ هِيَ وَحْشَةُ الصَّبْرِ وَنَكَارَتُهُ.

وَأَمَّا مَنْ رَأَى صَبْرَهُ بِاللَّهِ، وَصَبْرَهُ لِلَّهِ، وَصَبَرَ مَعَ اللَّهِ، مُشَاهِدًا أَنَّ صَبْرَهُ بِهِ تَعَالَى لَا بِنَفْسِهِ. فَهَذَا لَا تَلْحَقُ مَحَبَّتَهُ وَحْشَةٌ. وَلَا تَوْحِيدَهُ نَكَارَةٌ.

ثُمَّ لَوِ اسْتَقَامَ لَهُ هَذَا لَكَانَ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ. وَهُوَ الصَّبْرُ عَلَى الْمَكَارِهِ.

فَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى الطَّاعَاتِ - وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهَا - وَعَنِ الْمُخَالَفَاتِ - وَهُوَ مَنْعُ

<<  <  ج: ص:  >  >>