للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِأَنَّ الصَّبْرَ بِهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ. فَكُلُّ مَنْ شَهِدَ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ صَبَرَ بِهِ.

وَأَمَّا الصَّبْرُ لَهُ: فَمَنْزِلَةُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّدِّيقِينَ، وَأَصْحَابِ مَشْهَدِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] .

وَلِأَنَّ الصَّبْرَ لَهُ: صَبْرٌ فِيمَا هُوَ حَقُّ لَهُ، مَحْبُوبٌ لَهُ مَرْضِيٌّ لَهُ. وَالصَّبْرُ بِهِ: قَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ فِيمَا هُوَ مَسْخُوطٌ لَهُ. وَقَدْ يَكُونُ فِي مَكْرُوهٍ أَوْ مُبَاحٍ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟

وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الصَّبْرِ عَلَى أَحْكَامِهِ صَبْرًا عَلَيْهِ. فَلَا مُشَاحَّةَ فِي الْعِبَارَةِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَعْنَى. فَهَذَا هُوَ الصَّبْرُ عَلَى أَقْدَارِهِ. وَقَدْ جَعَلَهُ الشَّيْخُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ بِمَا تَقَدَّمَ: أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَالصَّبْرَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ: أَكْمَلُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى أَقْدَارِهِ - كَمَا ذَكَرْنَا فِي صَبْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّ الصَّبْرَ فِيهَا صَبْرُ اخْتِيَارٍ وَإِيثَارٍ وَمَحَبَّةٍ. وَالصَّبْرُ عَلَى أَحْكَامِهِ الْكَوْنِيَّةِ: صَبْرُ ضَرُورَةٍ. وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْبَوْنِ مَا قَدْ عَرَفْتَ.

وَكَذَلِكَ كَانَ صَبْرُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عَلَى مَا نَالَهُمْ فِي اللَّهِ بِاخْتِيَارِهِمْ وَفِعْلِهِمْ، وَمُقَاوَمَتِهِمْ قَوْمَهُمْ: أَكْمَلُ مِنْ صَبْرِ أَيُّوبَ عَلَى مَا نَالَهُ فِي اللَّهِ مِنِ ابْتِلَائِهِ وَامْتِحَانِهِ بِمَا لَيْسَ مُسَبَّبًا عَنْ فِعْلِهِ.

وَكَذَلِكَ كَانَ صَبْرُ إِسْمَاعِيلَ الذَّبِيحِ. وَصَبْرُ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى تَنْفِيذِ أَمْرِ اللَّهِ أَكْمَلَ مِنْ صَبْرِ يَعْقُوبَ عَلَى فَقْدِ يُوسُفَ.

فَعَلِمْتَ بِهَذَا أَنَّ الصَّبْرَ لِلَّهِ أَكْمَلُ مِنَ الصَّبْرِ بِاللَّهِ. وَالصَّبْرَ عَلَى طَاعَتِهِ وَالصَّبْرَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ أَكْمَلُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى قَضَائِهِ وَقَدْرِهِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

فَإِنْ قُلْتَ: الصَّبْرُ بِاللَّهِ أَقْوَى مِنَ الصَّبْرِ لِلَّهِ. فَإِنَّ مَا كَانَ بِاللَّهِ كَانَ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. وَمَا كَانَ بِهِ لَمْ يُقَاوِمْهُ شَيْءٌ. وَلَمْ يَقُمْ لَهُ شَيْءٌ. وَهُوَ صَبْرُ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ وَالتَّأْثِيرِ. وَالصَّبْرُ لِلَّهِ صَبْرُ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ. وَلِهَذَا هُمْ - مَعَ إِخْلَاصِهِمْ وَزُهْدِهِمْ وَصَبْرِهِمْ لِلَّهِ - أَضْعَفُ مِنَ الصَّابِرِينَ بِهِ، فَلِهَذَا قَالَ: وَأَضْعَفُ الصَّبْرِ: الصَّبْرُ لِلَّهِ.

قِيلَ: الْمَرَاتِبُ أَرْبَعَةٌ.

إِحْدَاهَا: مَرْتَبَةُ الْكَمَالِ. وَهِيَ مَرْتَبَةُ أُولِي الْعَزَائِمِ. وَهِيَ الصَّبْرُ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ.

فَيَكُونُ

<<  <  ج: ص:  >  >>