للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا حَيَاءُ الْمَحَبَّةِ: فَهُوَ حَيَاءُ الْمُحِبِّ مِنْ مَحْبُوبِهِ، حَتَّى إِنَّهُ إِذَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِهِ فِي غَيْبَتِهِ هَاجَ الْحَيَاءُ مِنْ قَلْبِهِ، وَأَحَسَّ بِهِ فِي وَجْهِهِ. وَلَا يَدْرِي مَا سَبَبُهُ. وَكَذَلِكَ يَعْرِضُ لِلْمُحِبِّ عِنْدَ مُلَاقَاتِهِ مَحْبُوبِهِ وَمُفَاجَأَتِهِ لَهُ رَوْعَةٌ شَدِيدَةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: جَمَالٌ رَائِعٌ. وَسَبَبُ هَذَا الْحَيَاءِ وَالرَّوْعَةِ مِمَّا لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلْمَحَبَّةِ سُلْطَانًا قَاهِرًا لِلْقَلْبِ أَعْظَمَ مِنْ سُلْطَانِ مَنْ يَقْهَرُ الْبَدَنَ. فَأَيْنَ مَنْ يَقْهَرُ قَلْبَكَ وَرُوحَكَ إِلَى مَنْ يَقْهَرُ بَدَنَكَ؟ وَلِذَلِكَ تَعَجَّبَتِ الْمُلُوكُ وَالْجَبَابِرَةُ مِنْ قَهْرِهِمْ لِلْخَلْقِ وَقَهْرِ الْمَحْبُوبِ لَهُمْ، وَذُلِّهِمْ لَهُ. فَإِذَا فَاجَأَ الْمَحْبُوبُ مُحِبَّهُ. وَرَآهُ بَغْتَةً: أَحَسَّ الْقَلْبُ بِهُجُومِ سُلْطَانِهِ عَلَيْهِ. فَاعْتَرَاهُ رَوْعَةٌ وَخَوْفٌ.

وَسَأَلْنَا يَوْمًا شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ فَذَكَرْتُ أَنَا هَذَا الْجَوَابَ. فَتَبَسَّمَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.

وَأَمَّا الْحَيَاءُ الَّذِي يَعْتَرِيهِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ - كَأَمَتِهِ وَزَوْجَتِهِ - فَسَبَبُهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ هَذَا السُّلْطَانَ لَمَّا زَالَ خَوْفُهُ عَنِ الْقَلْبِ بَقِيَتْ هَيْبَتُهُ وَاحْتِشَامُهُ. فَتَوَلَّدَ مِنْهَا الْحَيَاءُ. وَأَمَّا حُصُولُ ذَلِكَ لَهُ فِي غَيْبَةِ الْمَحْبُوبِ: فَظَاهِرٌ. لِاسْتِيلَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ. فَوَهْمُهُ يُغَالِطُهُ عَلَيْهِ وَيُكَابِرُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مَعَهُ.

وَأَمَّا حَيَاءُ الْعُبُودِيَّةِ: فَهُوَ حَيَاءٌ مُمْتَزِجٌ مِنْ مَحَبَّةٍ وَخَوْفٍ، وَمُشَاهَدَةِ عَدَمِ صَلَاحِ عُبُودِيَّتِهِ لِمَعْبُودِهِ، وَأَنَّ قَدْرَهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْهَا. فَعُبُودِيَّتُهُ لَهُ تُوجِبُ اسْتِحْيَاءَهُ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ.

وَأَمَّا حَيَاءُ الشَّرَفِ وَالْعِزَّةِ: فَحَيَاءُ النَّفْسِ الْعَظِيمَةِ الْكَبِيرَةِ إِذَا صَدَرَ مِنْهَا مَا هُوَ دُونَ قَدْرِهَا مِنْ بَذْلٍ أَوْ عَطَاءٍ وَإِحْسَانٍ. فَإِنَّهُ يَسْتَحْيِي مَعَ بَذْلِهِ حَيَاءَ شَرَفِ نَفْسٍ وَعِزَّةٍ. وَهَذَا لَهُ سَبَبَانِ.

أَحَدُهُمَا هَذَا. وَالثَّانِي: اسْتِحْيَاؤُهُ مِنَ الْآخِذِ، حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ الْآخِذُ السَّائِلُ. حَتَّى إِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْكَرَمِ لَا تُطَاوِعُهُ نَفْسُهُ بِمُوَاجَهَتِهِ لِمَنْ يُعْطِيهِ حَيَاءً مِنْهُ. وَهَذَا يَدْخُلُ فِي حَيَاءِ التَّلَوُّمِ. لِأَنَّهُ يَسْتَحْيِي مِنْ خَجْلَةِ الْآخِذِ.

وَأَمَّا حَيَاءُ الْمَرْءِ مِنْ نَفْسِهِ: فَهُوَ حَيَاءُ النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ الْعَزِيزَةِ الرَّفِيعَةِ مِنْ رِضَاهَا لِنَفْسِهَا بِالنَّقْصِ، وَقَنَاعَتِهَا بِالدُّونِ. فَيَجِدُ نَفْسَهُ مُسْتَحِيًا مِنْ نَفْسِهِ، حَتَّى كَأَنَّ لَهُ نَفْسَيْنِ، يَسْتَحْيِي بِإِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى. وَهَذَا أَكْمَلُ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَاءِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اسْتَحْيَى مِنْ نَفْسِهِ. فَهُوَ بِأَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْ غَيْرِهِ أَجْدَرُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>