للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سَائِرٍ عَلَى الطَّرِيقِ لَقِيَهُ رَجُلٌ فَاسْتَوْقَفَهُ، وَأَخَذَ يُحَدِّثُهُ وَيُلْهِيهِ حَتَّى فَاتَهُ الرِّفَاقُ. وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ مَعَ الصَّادِقِ السَّائِرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَإِيثَارُهُمْ عَلَيْهِ عَيْنُ الْغُبْنِ. وَمَا أَكْثَرَ الْمُؤْثِرِينَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَهُ. وَمَا أَقَلَّ الْمُؤْثِرِينَ اللَّهَ عَلَى غَيْرِهِ.

وَكَذَلِكَ الْإِيثَارُ بِمَا يُفْسِدُ عَلَى الْمُؤْثِرِ وَقْتَهُ قَبِيحٌ أَيْضًا. مِثْلَ أَنْ يُؤْثِرَ بِوَقْتِهِ وَيُفَرِّقَ قَلْبَهُ فِي طَلَبِ خَلَفِهِ، أَوْ يُؤْثِرَ بِأَمْرٍ قَدْ جَمَعَ قَلْبَهُ وَهَمَّهُ عَلَى اللَّهِ. فَيُفَرِّقَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ جَمْعِيَّتِهِ. وَيُشَتِّتَ خَاطِرَهُ. فَهَذَا أَيْضًا إِيثَارٌ غَيْرُ مَحْمُودٍ.

وَكَذَلِكَ الْإِيثَارُ بِاشْتِغَالِ الْقَلْبِ وَالْفِكْرِ فِي مُهِمَّاتِهِمْ وَمَصَالِحِهِمُ الَّتِي لَا تَتَعَيَّنُ عَلَيْكَ. عَلَى الْفِكْرِ النَّافِعِ، وَاشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِاللَّهِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ لَا تَخْفَى. بَلْ ذَلِكَ حَالُ الْخَلْقِ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ.

وَكُلُّ سَبَبٍ يَعُودُ عَلَيْكَ بِصَلَاحِ قَلْبِكَ وَوَقْتِكَ وَحَالِكَ مَعَ اللَّهِ: فَلَا تُؤْثِرْ بِهِ أَحَدًا. فَإِنْ آثَرْتَ بِهِ فَإِنَّمَا تُؤْثِرُ الشَّيْطَانَ عَلَى اللَّهِ، وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ.

وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ أَكْثَرِ الْخَلْقِ فِي إِيثَارِهِمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَضُرُّهُمْ إِيثَارُهُمْ لَهُ وَلَا يَنْفَعُهُمْ. وَأَيُّ جَهَالَةٍ وَسَفَهٍ فَوْقَ هَذَا؟

وَمِنْ هَذَا تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِيثَارِ بِالْقُرْبِ. وَقَالُوا: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ أَوْ حَرَامٌ. كَمَنْ يُؤْثِرُ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ غَيْرَهُ وَيَتَأَخَّرُ هُوَ، أَوْ يُؤْثِرُهُ بِقُرْبِهِ مِنَ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ يُؤْثِرُ غَيْرَهُ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، أَوْ يُؤْثِرُهُ بِعِلْمٍ يَحْرِمُهُ نَفْسَهُ، وَيَرْفَعُهُ عَلَيْهِ، فَيَفُوزُ بِهِ دُونَهُ.

وَتَكَلَّمُوا فِي إِيثَارِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدَفْنِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَتِهَا.

وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الْمَيِّتَ يَنْقَطِعُ عَمَلُهُ بِمَوْتِهِ وَبِقُرْبِهِ. فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ الْإِيثَارُ بِالْقُرْبِ بَعْدَ الْمَوْتِ. إِذْ لَا تَقَرُّبَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ. وَإِنَّمَا هَذَا إِيثَارٌ بِمَسْكَنٍ شَرِيفٍ فَاضِلٍ لِمَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْهَا. فَالْإِيثَارُ بِهِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُؤْثِرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ قَالَ وَلَا يُسْتَطَاعُ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِتَعْظِيمِ الْحُقُوقِ، وَمَقْتِ الشُّحِّ، وَالرَّغْبَةِ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

ذِكْرُ مَا يُعِينُ عَلَى الْإِيثَارِ فَيَبْعَثُ عَلَيْهِ. وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>