للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي اللَّهِ، وَفِي مَرْضَاتِهِ وَمَحَبَّتِهِ: رَضِيَتْ بِمَا نَالَهَا فِي اللَّهِ. وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مُحِبٍّ صَادِقٍ، يَرْضَى بِمَا يَنَالُهُ فِي رِضَا مَحْبُوبِهِ مِنَ الْمَكَارِهِ. وَمَتَى تَسَخَّطَ بِهِ وَتَشَكَّى مِنْهُ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَذِبِهِ فِي مَحَبَّتِهِ. وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، وَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ كَمَا قِيلَ:

مِنْ أَجْلِكَ جَعَلْتُ خَدِّيَ أَرْضًا ... لِلشَّامِتِ وَالْحَسُودِ حَتَّى تَرْضَى

وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِمَا يُصِيبُهُ فِي سَبِيلِ مَحْبُوبِهِ، فَلْيَنْزِلْ عَنْ دَرَجَةِ الْمَحَبَّةِ. وَلْيَتَأَخَّرْ فَلَيْسَ مِنْ ذَا الشَّأْنِ.

[فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الْخَامِسُ مَشْهَدُ الْإِحْسَانِ]

فَصْلٌ

الْمَشْهَدُ الْخَامِسُ: مَشْهَدُ الْإِحْسَانِ وَهُوَ أَرْفَعُ مِمَّا قَبْلَهُ. وَهُوَ أَنْ يُقَابِلَ إِسَاءَةَ الْمُسِيءِ إِلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ. فَيُحْسِنَ إِلَيْهِ كُلَّمَا أَسَاءَ هُوَ إِلَيْهِ. وَيُهَوِّنُ هَذَا عَلَيْهِ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ قَدْ رَبِحَ عَلَيْهِ. وَأَنَّهُ قَدْ أَهْدَى إِلَيْهِ حَسَنَاتِهِ، وَمَحَاهَا مِنْ صَحِيفَتِهِ. وَأَثْبَتَهَا فِي صَحِيفَةِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ. فَيَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَشْكُرَهُ، وَتُحْسِنَ إِلَيْهِ بِمَا لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى مَا أَحْسَنَ بِهِ إِلَيْكَ.

وَهَاهُنَا يَنْفَعُ اسْتِحْضَارُ مَسْأَلَةِ اقْتِضَاءِ الْهِبَةِ الثَّوَابِ. وَهَذَا الْمِسْكِينُ قَدْ وَهَبَكَ حَسَنَاتِهِ. فَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْكَرَمِ فَأَثِبْهُ عَلَيْهَا، لِتُثْبِتَ الْهِبَةَ. وَتَأْمَنَ رُجُوعَ الْوَاهِبِ فِيهَا.

وَفِي هَذَا حِكَايَاتٌ مَعْرُوفَةٌ عَنْ أَرْبَابِ الْمَكَارِمِ. وَأَهْلِ الْعَزَائِمِ.

وَيُهَوِّنُهُ عَلَيْكَ أَيْضًا: عِلْمُكَ بِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. فَإِنْ كَانَ هَذَا عَمَلَكَ فِي إِسَاءَةِ الْمَخْلُوقِ إِلَيْكَ عَفَوْتَ عَنْهُ. وَأَحْسَنْتَ إِلَيْهِ، مَعَ حَاجَتِكَ وَضَعْفِكَ وَفَقْرِكَ وَذَلِكَ. فَهَكَذَا يَفْعَلُ الْمُحْسِنُ الْقَادِرُ الْعَزِيزُ الْغَنِيُّ بِكَ فِي إِسَاءَتِكَ. يُقَابِلُهَا بِمَا قَابَلْتَ بِهِ إِسَاءَةَ عَبْدِهِ إِلَيْكَ. فَهَذَا لَا بُدَّ‍ مِنْهُ. وَشَاهِدُهُ فِي السُّنَّةِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا.

[فَصْلٌ الْمَشْهَدُ السَّادِسُ مَشْهَدُ السَّلَامَةِ وَبَرْدِ الْقَلْبِ]

فَصْلٌ

الْمَشْهَدُ السَّادِسُ: مَشْهَدُ السَّلَامَةِ وَبَرْدِ الْقَلْبِ وَهَذَا مَشْهَدٌ شَرِيفٌ جِدًّا لِمَنْ عَرَفَهُ، وَذَاقَ حَلَاوَتَهُ. وَهُوَ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ وَسِرُّهُ بِمَا نَالَهُ مِنَ الْأَذَى، وَطَلَبِ الْوُصُولِ إِلَى دَرْكِ ثَأْرِهِ، وَشِفَاءِ نَفْسِهِ. بَلْ يُفَرِّغُ قَلْبَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَيَرَى أَنَّ سَلَامَتَهُ وَبَرْدَهُ وَخُلُوَّهُ مِنْهُ أَنْفَعُ لَهُ. وَأَلَذُّ وَأَطْيَبُ. وَأَعْوَنُ عَلَى مَصَالِحِهِ. فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ فَاتَهُ مَا هُوَ أَهَمُّ عِنْدَهُ، وَخَيْرٌ لَهُ مِنْهُ. فَيَكُونُ بِذَلِكَ مَغْبُونًا. وَالرَّشِيدُ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ. وَيَرَى أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ السَّفِيهِ. فَأَيْنَ سَلَامَةُ الْقَلْبِ مِنِ امْتِلَائِهِ بِالْغِلِّ وَالْوَسَاوِسِ، وَإِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي إِدْرَاكِ الِانْتِقَامِ؟ .

<<  <  ج: ص:  >  >>