للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْفِتْنَةَ اخْتِبَارٌ مِنْكَ لِعَبْدِكَ، وَامْتِحَانٌ. تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ. وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ. فَأَيُّ تَعَلُّقٍ لِهَذَا بِالِانْبِسَاطِ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا تَوْحِيدٌ، وَشُهُودٌ لِلْحِكْمَةِ، وَسُؤَالٌ لِلْعِصْمَةِ، وَالْمَغْفِرَةِ؟ وَلَيْسَ لِلْعَارِفِ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ حَظٌّ مَعَ اللَّهِ. وَإِنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخَلْقِ.

وَصَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": جَعَلَهَا ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ. الْأُولَى: مَعَ النَّاسِ، وَالثَّانِيَةَ، وَالثَّالِثَةَ: مَعَ اللَّهِ. وَسَنُبَيِّنُ مَا فِي كَلَامِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ وَتَوْفِيقِهِ.

قَالَ: الِانْبِسَاطُ: إِرْسَالُ السَّجِيَّةِ، وَالتَّحَاشِي مِنْ وَحْشَةِ الْحِشْمَةِ.

السَّجِيَّةُ الطَّبْعُ، وَجَمْعُهَا سَجَايَا، يُقَالُ: سَجِيَّةٌ، وَخَلِيقَةٌ، وَطَبِيعَةٌ، وَغَرِيزَةٌ. وَإِرْسَالُهَا: تَرْكُهَا فِي مَجْرَاهَا.

وَالتَّحَاشِي مِنْ وَحْشَةِ الْحِشْمَةِ. التَّحَاشِي: هُوَ تَجَنُّبُ الْوَحْشَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَنْ تُحِبُّهُ وَتَخْدُمُهُ. فَإِنَّ مَرْتَبَتَهُ تَقْتَضِي احْتِشَامَهُ، وَالْحَيَاءَ مِنْهُ، وَإِجْلَالَهُ عَنِ انْبِسَاطِكَ إِلَيْهِ. وَذَلِكَ نَوْعُ وَحْشَةٍ، فَالِانْبِسَاطُ: إِزَالَةُ تِلْكَ الْوَحْشَةِ لَا تُسْقِطُكَ مِنْ عَيْنِهِ. بَلْ تَزِيدُكَ حُبًّا إِلَيْهِ. وَلَا سِيَّمَا إِذَا وَقَعَ فِي مَوْقِعِهِ.

قَالَ: وَهُوَ السَّيْرُ مَعَ الْجِبِلَّةِ، أَيِ الْمَشْيُ مَعَ مَا جَبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعَبْدَ مِنَ الْأَخْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ.

[دَرَجَاتُ الْبَسْطِ]

[الدَّرَجَةُ الْأُولَى الِانْبِسَاطُ مَعَ الْخَلْقِ]

قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: الِانْبِسَاطُ مَعَ الْخَلْقِ. وَهُوَ أَنْ تَعْتَزِلَهُمْ، ضَنًّا عَلَى نَفْسِكَ، أَوْ شُحًّا عَلَى حَظِّكَ. وَتَسْتَرْسِلَ لَهُمْ فِي فَضْلِكَ. وَتَسَعَهُمْ بُخُلُقِكَ، وَتَدَعَهُمْ يَطَؤُونَكَ. وَالْعِلْمُ قَائِمٌ، وَشُهُودُ الْمَعْنَى دَائِمٌ.

يُرِيدُ: لَا تَبْخَلْ عَلَيْهِمْ بِنَفْسِكَ. فَيَحْمِلَكَ ذَلِكَ الْبُخْلُ عَلَى اعْتِزَالِهِمْ. وَتَشِحَّ بِحَظِّكَ فِي الْخَلْوَةِ. وَرَاحَةُ الْعُزْلَةِ: أَنْ تَذْهَبَ بِمُخَالَطَتِهِمْ، بَلْ تَحْمِلُكَ السَّمَاحَةُ وَالْجُودُ وَالْبَذْلُ عَلَى أَنْ تَتْرُكَ ذَلِكَ لِرَاحَةِ إِخْوَانِكَ بِكَ، وَانْتِفَاعِهِمْ بِمُجَالَسَتِكَ. فَتَتَكَرَّمَ عَلَيْهِمْ بِحَظِّكَ فِي عُزْلَتِكَ وَخَلْوَتِكَ، وَتُؤْثِرَهُمْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ.

وَهَذَا مِنَ الْفُتُوَّةِ. وَالْمُرُوءَةُ وَالتَّخَلُّقُ ضِدٌّ مِنْ أَضْدَادِهَا.

قَوْلُهُ: وَتَسْتَرْسِلَ لَهُمْ مِنْ فَضْلِكَ.

يَعْنِي: إِذَا اسْتَرْسَلْتَ مَعَهُمْ، وَلَمْ تَجْذِبْ عَنْهُمْ عِنَانَكَ: نَالُوا مِنْ فَضْلِكَ. فَيَكُونُ اسْتِرْسَالُكَ سَبَبًا لِنَيْلِهِمْ لِفَضْلِكَ، وَقَبْضُ الْعِنَانِ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>