للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِكُلِّ طَرِيقٍ. وَكُلَّمَا فَتَّشَ عَنْ ذَلِكَ اطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى أُمُورٍ عَجِيبَةٍ. لَا يَقِفُ وَهْمُهُ وَمُقْتَبَسُهُ لَهَا عَلَى غَايَةٍ. بَلْ مَا خَفِيَ عَنْهُ مِنْهَا أَعْظَمُ. فَيُدَاخِلُهُ مِنْ شُهُودِ هَذِهِ الْحَالَةِ نَوْعُ إِدْلَالٍ وَانْبِسَاطٍ. وَشُهُودُ نَفْسِهِ فِي مَنْزِلَةِ الْمُرَادِ الْمَحْبُوبِ. وَلَا يَسْلَمُ مِنْ آفَاتِ ذَلِكَ إِلَّا خَوَاصُّ الْعَارِفِينَ.

وَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ نِهَايَتُهُ: أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا، وَمَا يَبْدُو مِنْهُ مِنْ أَحْكَامِهِ بِالشَّطَحَاتِ أَلْيَقُ مِنْهُ بِأَحْكَامِ الْعُبُودِيَّةِ.

وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ فِي مَنْزِلَةِ الْقُرْبِ وَالْكَرَامَةِ وَالْحُظْوَةِ وَالْجَاهِ مَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَكَانَ أَشَدَّ الْخَلْقِ لِلَّهِ خَشْيَةً وَتَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا. وَحَالُهُ كُلُّهَا مَعَ اللَّهِ تَشْهَدُ بِتَكْمِيلِ الْعُبُودِيَّةِ. وَأَيْنَ دَرَجَةُ الِانْبِسَاطِ مِنَ الْمَخْلُوقِ مِنَ التُّرَابِ، إِلَى الِانْبِسَاطِ مَعَ رَبِّ الْأَرْبَابِ؟

نَعَمْ لَا يُنْكِرُ فَرَحَ الْقَلْبِ بِالرَّبِّ تَعَالَى وَسُرُورَهُ بِهِ، وَابْتِهَاجَهُ وَقُرَّةَ عَيْنِهِ، وَنَعِيمَهُ بِحُبِّهِ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِهِ: إِلَّا كَثِيفُ الْحِجَابِ، حَجَرِيُّ الطِّبَاعِ. فَلَا بِهَذَا الْمَيَعَانِ. وَلَا بِذَاكَ الْجُمُودِ وَالْقَسْوَةِ.

وَبِهَذَا وَمِثْلِهِ طَرَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْقَوْمِ السَّبِيلَ إِلَيْهِمْ. وَفَتَحُوا لِلْمَقَالَةِ فِيهِمْ بَابًا، فَالْعَبْدُ الْخَائِفُ الْوَجِلُ الْمُشْفِقُ الذَّلِيلُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، الْمُنَكَّسُ الرَّأْسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، الَّذِي لَا يَرْضَى لِرَبِّهِ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ: هُوَ أَحْوَجُ شَيْءٍ إِلَى عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَلَا يَرَى نَفْسَهُ فِي نِعْمَتِهِ إِلَّا طُفَيْلِيًّا. وَلَا يَرَى نَفْسَهُ مُحْسِنًا قَطُّ. وَإِنْ صَدَرَ مِنْهُ إِحْسَانٌ: عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا بِهَا وَلَا فِيهَا. وَإِنَّمَا هُوَ مَحْضُ مِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَصَدَقَتُهُ عَلَيْهِ. فَمَا لِهَذَا وَالِانْبِسَاطِ؟

نَعَمِ انْبِسَاطُهُ انْبِسَاطُ فَرَحٍ وَسُرُورٍ وَرِضًا وَابْتِهَاجٍ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالِانْبِسَاطِ هَذَا: فَلَا نُنْكِرُهُ. لَكِنَّهُ غَيْرَ الِاسْتِرْسَالِ الْمَذْكُورِ، وَالِاسْتِشْهَادُ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ يُبَيِّنُ مُرَادَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>