للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَهُوَ تَجْرِيدُ الْفَرْدَانِيَّةِ أَنْ يَشْهَدَ مَعَهَا غَيْرَهَا، وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى.

وَسُمِّيَ ذَلِكَ احْتِبَاسًا لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ شُهُودِ الْأَغْيَارِ. وَجَعَلَ لِلتَّجْرِيدِ قَيْدًا. وَهُوَ التَّقَيُّدُ بِشُهُودِ الْحَقِيقَةِ.

وَجَعَلَ الْقَيْدَ بَيْدَاءَ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَغْيَارَ تَبِيدُ فِيهِ وَتَنْعَدِمُ. وَلَا يَكُونُ مَعَهُ سِوَاهُ.

وَالثَّانِي: لِسَعَتِهِ وَفَضَائِهِ. فَصَاحِبُ مَشْهَدِهِ: فِي بَيْدَاءَ وَاسِعَةٍ، وَإِنِ احْتُبِسَ فِي قَيْدِ شُهُودِهِ.

وَقَوْلُهُ: وَهَذَا فَقْرُ الصُّوفِيَّةِ.

قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ: أَنَّ التَّصَوُّفَ أَعْلَى عِنْدِهِ مِنَ الْفَقْرِ. فَإِنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ الثَّالِثَةَ - الَّتِي هِيَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْفَقْرِ عِنْدَهُ - هِيَ مِنْ بَعْضِ مَقَامَاتِ الصُّوفِيَّةِ.

وَطَائِفَةٌ تُنَازِعُهُ فِي ذَلِكَ، وَتَقُولُ: التَّصَوُّفُ دُونَ هَذَا الْمَقَامِ بِكَثِيرٍ. وَالتَّصَوُّفُ وَسِيلَةٌ إِلَى هَذَا الْفَقْرِ. فَإِنَّ التَّصَوُّفَ خُلُقٌ. وَهَذَا الْفَقْرُ حَقِيقَةٌ، وَغَايَةٌ لَا غَايَةَ وَرَاءَهَا.

وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْقَوْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَحَكَيْنَا فِيهَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ، هَذَيْنِ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُفَضَّلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ. فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا تَتِمُّ حَقِيقَتُهُ إِلَّا بِالْآخَرِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّامِيِّينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْغِنَى]

[حَقِيقَةُ الْغِنَى]

فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْغِنَى

وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] مَنْزِلَةُ الْغِنَى الْعَالِي.

وَهُوَ نَوْعَانِ: غِنًى بِاللَّهِ، وَغِنًى عَنْ غَيْرِ اللَّهِ، وَهُمَا حَقِيقَةُ الْفَقْرِ. وَلَكِنَّ أَرْبَابَ الطَّرِيقِ أَفْرَدُوا لِلْغِنَى مَنْزِلَةً.

قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " رَحِمَهُ اللَّهُ: بَابُ الْغِنَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: ٨] .

وَفِي الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَغْنَاهُ مِنَ الْمَالِ بَعْدَ فَقْرِهِ: وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. لِأَنَّهُ قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ: عَائِلًا، وَالْعَائِلُ: هُوَ الْمُحْتَاجُ. لَيْسَ ذَا الْعَيْلَةِ. فَأَغْنَاهُ مِنَ الْمَالِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>