للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالثَّانِي: مُسَالَمَةُ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ. الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى دَفْعِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِدَفْعِهِ.

وَفِي مُسَالَمَةِ الْحُكْمِ نُكْتَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا. وَهِيَ تَجْرِيدُ إِضَافَتِهِ وَنِسْبَتِهِ إِلَى مَنْ صَدَرَ عَنْهُ، بِحَيْثُ لَا يَنْسُبُهُ إِلَى غَيْرِهِ.

وَهَذَا يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ فِي مُسَالَمَةِ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ. وَتَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ فِي مُسَالَمَةِ الْحُكْمِ الدِّينِيِّ. وَهُمَا حَقِيقَةُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] .

وَأَمَّا الْخَلَاصُ مِنَ الْخُصُومَةِ

فَإِنَّمَا يُحْمَدُ مِنْهُ: الْخَلَاصُ مِنَ الْخُصُومَةِ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ. وَأَمَّا إِذَا خَاصَمَ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ: فَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي اسْتِفْتَاحِهِ: «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ. وَبِكَ آمَنْتُ. وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ. وَبِكَ خَاصَمْتُ. وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ» .

[الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ غِنَى النَّفْسِ]

قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ. غِنَى النَّفْسِ. وَهُوَ اسْتِقَامَتُهَا عَلَى الْمَرْغُوبِ. وَسَلَامَتُهَا مِنَ الْحُظُوظِ. وَبَرَاءَتُهَا مِنَ الْمُرَاءَاةِ

جَعَلَ الشَّيْخُ: غِنَى النَّفْسِ فَوْقَ غِنَى الْقَلْبِ.

وَمَعْلُومٌ: أَنَّ أُمُورَ الْقَلْبِ أَكْمَلُ وَأَقْوَى مِنْ أُمُورِ النَّفْسِ. لَكِنَّ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ نُكْتَةً لَطِيفَةً. وَهِيَ أَنَّ النَّفْسَ مِنْ جُنْدِ الْقَلْبِ وَرَعِيَّتِهِ. وَهِيَ مِنْ أَشَدِّ جُنْدِهِ خِلَافًا عَلَيْهِ، وَشِقَاقًا لَهُ. وَمِنْ قِبَلِهَا تَتَشَوَّشُ عَلَيْهِ الْمَمْلَكَةُ. وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ الدَّاخِلُ. فَإِذَا حَصَلَ لَهُ كَمَالٌ بِالْغِنَى: لَمْ يَتِمَّ لَهُ إِلَّا بِغِنَاهَا أَيْضًا. فَإِنَّهَا مَتَى كَانَتْ فَقِيرَةً عَادَ حُكْمُ فَقْرِهَا عَلَيْهِ. وَتَشَوَّشَ عَلَيْهِ غِنَاهُ. فَكَانَ غِنَاهَا تَمَامًا لِغِنَاهُ وَكَمَالًا لَهُ. وَغِنَاهُ أَصْلًا بِغِنَاهَا. فَمِنْهُ يَصِلُ الْغِنَى إِلَيْهَا. وَمِنْهَا يَصِلُ الْفَقْرُ وَالضَّرَرُ وَالْعَنَتُ إِلَيْهِ.

إِذَا عُرِفَ هَذَا، فَالشَّيْخُ جَعَلَ غِنَاهَا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:

اسْتِقَامَتُهَا عَلَى الْمَرْغُوبِ وَهُوَ الْحَقُّ تَعَالَى. وَاسْتِقَامَتُهَا عَلَيْهِ: اسْتِدَامَةُ طَلَبِهِ. وَقَطْعُ الْمَنَازِلِ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِ.

الثَّانِي: سَلَامَتُهَا مِنَ الْحُظُوظِ وَهِيَ تَعَلُّقَاتُهَا الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ بِمَا سِوَى اللَّهِ.

الثَّالِثُ: بَرَاءَتُهَا مِنَ الْمُرَاءَاةِ وَهِيَ إِرَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهَا وَأَقْوَالِهَا. فَمُرَاءَاتُهَا دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ فَقْرِهَا. وَتَعَلُّقُهَا بِالْحُظُوظِ مِنْ فَقْرِهَا أَيْضًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>