للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذِهِ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْفَنَاءِ وَالْبَقَاءِ، فَالْوَاصِلُ إِلَى شُهُودِ الْحَضْرَةِ: مُطْمَئِنٌّ إِلَى لُطْفِ اللَّهِ. وَحَضْرَةِ الْجَمْعِ يُرِيدُونَ بِهَا الشُّهُودَ الذَّاتِيَّ.

فَإِنَّ الشُّهُودَ عِنْدَهُمْ مَرَاتِبُ بِحَسَبِ تَعَلُّقِهِ. فَشُهُودُ الْأَفْعَالِ: أَوَّلُ مَرَاتِبِ الشُّهُودِ. ثُمَّ فَوْقَهُ: شُهُودُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. ثُمَّ فَوْقَهُ: شُهُودُ الذَّاتِ الْجَامِعَةِ إِلَى الْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَالتَّجَلِّي عِنْدَ الْقَوْمِ: بِحَسَبِ هَذِهِ الشُّهُودِ الثَّلَاثَةِ.

فَأَصْحَابُ تَجَلِّي الْأَفْعَالِ: مَشْهَدُهُمْ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ. وَأَصْحَابُ تَجَلِّي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: مَشْهَدُهُمْ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ: وَأَصْحَابُ تَجَلِّي الذَّاتِ: يُغْنِيهِمْ بِهِ عَنْهُمْ.

وَقَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِهِمْ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْوَارِدِ وَضَعْفِ الْمَحَلِّ عَجْزٌ عَنِ الْقِيَامِ وَالْحَرَكَةِ. فَرُبَّمَا عَطَّلَ بَعْضَ الْفُرُوضِ، وَهَذَا لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْعَجْزِ وَالتَّفْرِيطِ، وَالْكَامِلُونَ مِنْهُمْ قَدْ يَفْتُرُونَ فِي تِلْكَ الْحَالِ عَنِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ. وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى الْفَرَائِضِ وَسُنَنِهَا وَحُقُوقِهَا. وَلَا يَقْعُدُ بِهِمْ ذَلِكَ الشُّهُودُ وَالتَّجَلِّي عَنْهَا. وَلَا يُؤْثِرُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ النَّوَافِلِ وَالْحَرَكَاتِ الَّتِي لَمْ تَعْرِضْ عَلَيْهِمْ أَلْبَتَّةَ. وَذَلِكَ فِي طَرِيقِهِمْ رُجُوعٌ وَانْقِطَاعٌ.

وَأَكْمَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ: مَنْ يَصْحَبُهُ ذَلِكَ فِي حَالِ حَرَكَاتِهِ وَنَوَافِلِهِ. فَلَا يُعَطِّلُ ذَرَّةً مِنْ أَوْرَادِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ فَاوَتَ بَيْنَ قُوَى الْقُلُوبِ أَشَدَّ مِنْ تَفَاوُتِ قُوَى الْأَبْدَانِ. وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ. وَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَالْبَصَائِرِ.

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ لَوْلَا طُمَأْنِينَتُهُ إِلَى لُطْفِ اللَّهِ لَمَحَقَهُ شُهُودُ الْحَضْرَةِ وَأَفْنَاهُ جُمْلَةً. فَقَدْ خَرَّ مُوسَى صَعِقًا لَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ. وَتَدَكْدَكَ الْجَبَلُ وَسَاخَ فِي الْأَرْضِ مِنْ تَجَلِّيهِ سُبْحَانَهُ.

هَذَا وَلَا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْحَاصِلَ فِي الدُّنْيَا لِلْبَشَرِ كَذَلِكَ، وَلَا قَرِيبٌ مِنْهُ أَبَدًا. وَإِنَّمَا هِيَ الْمَعَارِفُ، وَاسْتِيلَاءُ مَقَامِ الْإِحْسَانِ عَلَى الْقَلْبِ فَقَطْ.

وَإِيَّاكَ وَتُرَّهَاتِ الْقَوْمِ، وَخَيَالَاتِهِمْ وَرَعُونَاتِهِمْ، وَإِنْ سَمَّوْكَ مَحْجُوبًا، فَقُلِ: اللَّهُمَّ زِدْنِي مِنْ هَذَا الْحِجَابِ الَّذِي مَا وَرَاءَهُ إِلَّا الْخَيَالَاتُ وَالتُّرَّهَاتُ وَالشَّطَحَاتُ. فَكَلِيمُ الرَّحْمَنِ وَحْدَهُ مَعَ هَذَا لَمْ تَتَجَلَّ الذَّاتُ لَهُ، وَأَرَاهُ رَبُّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِتَجَلِّي ذَاتِهِ، لَمَّا أَشْهَدَهُ مِنْ حَالِ الْجَبَلِ، وَخَرَّ الْكَلِيمُ صَعِقًا مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، لَمَّا رَأَى مَا رَأَى مِنْ حَالِ الْجَبَلِ عِنْدَ تَجَلِّي رَبِّهِ لَهُ. وَلَمْ يَكُنْ تَجَلِّيًا مُطْلَقًا. قَالَ الضَّحَّاكُ: أَظْهَرَ اللَّهُ مِنْ نُورِ الْحُجُبِ مِثْلَ مِنْخَرِ ثَوْرٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ: مَا تَجَلَّى مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ لِلْجَبَلِ إِلَّا مِثْلُ سَمِّ الْخِيَاطِ حَتَّى صَارَ دَكًّا.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَا تَجَلَّى إِلَّا قَدْرُ الْخِنْصَرِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>