للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَعَ مَا اختصَّه اللَّهُ بِهِ مِمَّا لَمَّ يؤت أحداً قبله، كما ذكرنا في خصائصه وشمائله صلى الله عليه وسلَّم، وَوَقَفْتُ عَلَى فَصْلٍ مَلِيحٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْحَافِظِ أَبِي نُعَيْمٍ، أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيِّ، وَهُوَ كِتَابٌ حَافِلٌ فِي ثَلَاثِ مُجَلَّدَاتٍ، عَقَدَ فِيهِ فَصْلًا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَكَذَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، فِي كِتَابِهِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ كِتَابٌ كَبِيرٌ جَلِيلٌ حافل، مشتمل على فرائد نَفِيسَةٍ * وَكَذَا الصَّرْصَرِيُّ الشَّاعر يُورِدُ فِي بَعْضِ قصائده أشياء من ذلك كَمَا سَيَأْتِي * وَهَا أَنَا أَذْكُرُ بِعَوْنِ اللَّهِ مجامع ما ذكرنا من هذه الأماكن المتفرقة بأوجز عبارة، وأقصر إِشَارَةٍ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الحكيم.

الْقَوْلُ فِيمَا أُوتِيَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: * (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) * [الْقَمَرِ: ١٠ - ١٧] ، وَقَدْ ذَكَرْتُ القصَّة مَبْسُوطَةً

فِي أوَّل هَذَا الْكِتَابِ وَكَيْفَ دَعَا عَلَى قَوْمِهِ فنجَّاه اللَّهُ وَمَنِ اتَّبعه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يَهْلَكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَأَغْرَقَ مَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْكَافِرِينَ فَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ حَتَّى وَلَا وَلَدُهُ * قَالَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو الْمَعَالِي مُحَمَّدُ بْنُ علي الأنصاريّ الزَّملكانيّ، وَمِنْ خطِّه نَقَلْتُ: وَبَيَانُ أنَّ كُلَّ معجزة لنبيّ فلنبِّينا أمثالها، إذا تمَّ يَسْتَدْعِي كَلَامًا طَوِيلًا، وَتَفْصِيلًا لَا يَسَعُهُ مُجَلَّدَاتٌ عَدِيدَةٌ، وَلَكِنْ ننبِّه بِالْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، فَلْنَذْكُرْ جَلَائِلَ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَمِنْهَا نَجَاةُ نُوحٍ فِي السَّفينة بِالْمُؤْمِنِينَ، وَلَا شكَّ أنَّ حَمْلَ الْمَاءِ للنَّاس مِنْ غَيْرِ سَفِينَةٍ أَعْظَمُ مِنَ السُّلوك عَلَيْهِ فِي السَّفينة، وَقَدْ مَشَى كَثِيرٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى مَتْنِ الْمَاءِ، وَفِي قصَّة العلاء بن زياد، صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يدل على ذلك، روى مِنْجَابٍ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ دَارِينَ (١) ، فَدَعَا بِثَلَاثِ دَعَوَاتٍ فَاسْتُجِيبَتْ لَهُ، فَنَزَلْنَا منزلاً فطلب الماء فلم يجده، فقام وصلَّى رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ، اللَّهم إنَّا عَبِيدُكَ وَفِي سَبِيلِكِ، نُقَاتِلُ عدوَّك، اللَّهم اسْقِنَا غَيْثًا نَتَوَضَّأُ بِهِ وَنَشْرَبُ، وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ فِيهِ نَصِيبٌ غَيْرَنَا، فَسِرْنَا قَلِيلًا فَإِذَا نَحْنُ بِمَاءٍ حِينَ أَقْلَعَتِ السَّماء عَنْهُ، فَتَوَضَّأْنَا مِنْهُ وتزوَّدنا، وَمَلَأْتُ إِدَاوَتِي وَتَرَكْتُهَا مَكَانَهَا حَتَّى أَنْظُرَ هَلِ اسْتُجِيبَ لَهُ أم لا، فسرنا قليلاً ثمَّ قلت لاصاحبي: نَسِيتُ إِدَاوَتِي، فَرَجَعْتُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فكأنَّه لَمْ يُصِبْهُ مَاءٌ قَطُّ، ثمَّ سِرْنَا حَتَّى أَتَيْنَا دَارِينَ وَالْبَحْرُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَقَالَ، يَا علي يا حكيم، إنَّا عبيدك وفي سبيلك، نقاتل عدوك، اللَّهم فَاجْعَلْ لَنَا إِلَيْهِمْ سَبِيلًا، فَدَخَلْنَا الْبَحْرَ فَلَمْ يَبْلُغِ الْمَاءَ لُبُودَنَا، وَمَشَيْنَا عَلَى مَتْنِ الْمَاءِ ولم يبتل لنا شئ، وذكر بقية القصَّة، فَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ رُكُوبِ السَّفينة، فإنَّ حَمْلَ الْمَاءِ للسَّفينة مُعْتَادٌ، وَأَبْلَغُ مِنْ فَلْقِ الْبَحْرِ لِمُوسَى، فإنَّ هُنَاكَ انْحَسَرَ الْمَاءُ حَتَّى مَشَوْا على


(١) دارين: فرضة بالبحرين يجلب إليها المسك من الهند، والنسبة إليها داري.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>