للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ مَلِكُ الصِّينِ فَرَأَى أَمْثَالَ الْجِبَالِ مُقْبِلَةً، فَلَمَّا قَرُبُوا مِنْهُ رَكَزُوا رِمَاحَهُمْ ثُمَّ أَقْبَلُوا نَحْوَهُ مُشَمِّرِينَ، فَقِيلَ لَهُمْ: ارْجِعُوا - وَذَلِكَ لِمَا دَخَلَ قُلُوبَ أَهْلِ الصِّينِ مِنَ الْخَوْفِ مِنْهُمْ - فَانْصَرَفُوا فَرَكِبُوا خُيُولَهُمْ وَاخْتَلَجُوا رِمَاحَهُمْ ثُمَّ سَاقُوا خُيُولَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَتَطَارَدُونَ بِهَا، فَقَالَ الْمَلِكُ لأصحابه: كيف ترونهم؟ فقالوا: ما رأينا كهؤلاء قَطُّ.

فَلَمَّا أَمْسَوْا بَعَثَ إِلَيْهِمُ الْمَلِكُ أَنِ ابْعَثُوا إِلَيَّ زَعِيمَكُمْ وَأَفْضَلَكُمْ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ: قَدْ رَأَيْتُمْ عِظَمَ مُلْكِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَمْنَعُكُمْ مِنِّي، وَأَنْتُمْ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْضَةِ فِي كَفِّي، وَأَنَا سَائِلُكُ عن أمر فإن تصدقني وإلا قَتَلْتُكَ، فَقَالَ:

سَلْ! فَقَالَ الْمَلِكُ: لِمَ صَنَعْتُمْ مَا صَنَعْتُمْ مِنْ زِيٍّ أَوَّلَ يَوْمٍ وَالثَّانِيَ وَالثَّالِثَ؟ فَقَالَ: أَمَّا زِيُّنَا أَوَّلَ يَوْمٍ فَهُوَ لِبَاسُنَا فِي أَهْلِنَا وَنِسَائِنَا وَطِيبُنَا عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا مَا فَعَلْنَا ثَانِيَ يَوْمٍ فَهُوَ زِيُّنَا إِذَا دَخَلْنَا عَلَى مُلُوكِنَا، وَأَمَّا زِيُّنَا ثَالِثَ يَوْمٍ فَهُوَ إِذَا لَقِينَا عَدُوَّنَا.

فَقَالَ الْمَلِكُ: مَا أحسن ما دبرتم دهركم، فانصرفوا إِلَى صَاحِبِكُمْ - يَعْنِي قُتَيْبَةَ - وَقُولُوا لَهُ يَنْصَرِفُ رَاجِعًا عَنْ بِلَادِي، فَإِنِّي قَدْ عَرَفْتُ حِرْصَهُ وَقِلَّةَ أَصْحَابِهِ، وَإِلَّا بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ مَنْ يُهْلِكُكُمْ عَنْ آخِرِكُمْ.

فَقَالَ لَهُ هُبَيْرَةُ: تَقُولُ لِقُتَيْبَةَ هَذَا؟ ! فَكَيْفَ يَكُونُ قَلِيلَ الْأَصْحَابِ مَنْ أَوَّلُ خَيْلِهِ فِي بِلَادِكَ وَآخِرُهَا فِي مَنَابِتِ الزَّيْتُونِ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ حَرِيصًا مَنْ خَلَّفَ الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَيْهَا، وَغَزَاكَ فِي بِلَادِكَ؟ وَأَمَّا تَخْوِيفُكَ إِيَّانَا بِالْقَتْلِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ لَنَا أَجَلًا إِذَا حَضَرَ فَأَكْرَمُهَا عِنْدَنَا الْقَتْلُ، فَلَسْنَا نَكْرَهُهُ وَلَا نَخَافُهُ.

فَقَالَ الْمَلِكُ: فَمَا الَّذِي يُرْضِي صَاحِبَكُمْ؟ فَقَالَ: قَدْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَطَأَ أَرْضَكَ وَيَخْتِمَ مُلُوكَكَ وَيَجْبِيَ الْجِزْيَةَ مِنْ بلادك، فقال أَنَا أَبِرُّ يَمِينَهُ وَأُخْرِجُهُ مِنْهَا، أُرْسِلُ إِلَيْهِ بِتُرَابٍ مِنْ أَرْضِي، وَأَرْبَعِ غِلْمَانٍ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، وَأُرْسِلُ إِلَيْهِ ذَهَبًا كَثِيرًا وَحَرِيرًا وَثِيَابًا صينيةً لا تقوم ولا يدرى قَدْرَهَا، ثُمَّ جَرَتْ لَهُمْ مَعَهُ مُقَاوَلَاتٌ كَثِيرَةٌ، ثمَّ اتَّفق الْحَالُ عَلَى أَنْ بَعَثَ صِحَافًا مَنْ ذَهَبٍ مُتَّسِعَةً فِيهَا تُرَابٌ مِنْ أَرْضِهِ لِيَطَأَهُ قُتَيْبَةُ، وَبَعَثَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ الْمُلُوكِ لِيَخْتِمَ رِقَابَهُمْ، وَبَعَثَ بِمَالٍ جَزِيلٍ لِيَبِرَّ بِيَمِينِ قُتَيْبَةَ، وَقِيلَ إِنَّهُ بَعَثَ أَرْبَعَمِائَةٍ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ الْمُلُوكِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قُتَيْبَةَ مَا أَرْسَلَهُ مَلِكُ الصِّينِ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدِ انْتَهَى إِلَيْهِ خَبَرُ مَوْتِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (١) ، فَانْكَسَرَتْ هِمَّتُهُ لِذَلِكَ، وَقَدْ عَزَمَ قُتَيْبَةُ بْنُ مسلم الباهلي على ترك مُبَايَعَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَرَادَ الدَّعْوَةَ إِلَى نَفْسِهِ لِمَا تَحْتَ يَدِهِ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَلِمَا فَتَحَ مِنَ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قُتِلَ فِي آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ مَا كُسِرَتْ لَهُ رَايَةٌ، وَكَانَ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاجْتَمَعَ لَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ.

وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الصَّائِفَةَ، وَغَزَا العبَّاس بْنُ الْوَلِيدِ الروم، ففتح طولس والمرز بانين من بلاد الروم.


(١) في الطبري وابن الاثير أن قتيبة قبل من ملك الصين ما أرسله إليه وأوفد إلى الوليد هبيرة يعلمه الخبر، فمات هبيرة وهو في طريقه بقرية من فارس وهذا يعني أن قتيبة لم يكن على علم بموت الوليد، أو لعل الوليد مات بعد ذلك بقليل
(الطبري ٨ / ١٠١ - الكامل ٥ / ٧) .
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>