للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بمنزلي حجبتها في جانب الدار في خدر، فأمرت بذلك العلوي فجئ بِهِ فَجَلَسَ إِلَيَّ فَتَكَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنْهُ وَلَا أَفْهَمَ.

ثُمَّ قَالَ لِي: يَا يَعْقُوبُ تَلْقَى اللَّهَ بِدَمِي وَأَنَا رَجُلٌ مَنْ وَلَدِ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم؟ فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ وَلَكِنِ اذْهَبْ حيث شئت وأين شِئْتَ.

فَقَالَ: إِنِّي أَخْتَارُ بِلَادَ كَذَا وَكَذَا.

فَقُلْتُ: اذْهَبْ كَيْفَ شِئْتَ، وَلَا يَظْهَرَنَّ عَلَيْكَ الْمَهْدِيُّ فَتَهْلِكُ وَأَهْلِكُ.

فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِي وَجَهَّزْتُ مَعَهُ رَجُلَيْنِ يُسَفِّرَانِهِ وَيُوَصِّلَانِهِ بَعْضَ الْبِلَادِ، وَلَمْ أَشْعُرْ بِأَنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ أَحَاطَتْ عِلْمًا بِمَا جرى، وأنها كالجاسوس عليّ، فبعثت بخامدها إلى المهدي فأعلمته بما جرى، فبعث المهدي إلى تلك الطريق فردوا ذلك الْعَلَوِيَّ فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي بَيْتٍ مِنْ دَارِ الخلافة، وأرسل إليّ من اليوم الثاني فذهب إليه ولم أشعر من أمر العلوي بشئ، فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ قَالَ: مَا فَعَلَ الْعَلَوِيُّ؟ قُلْتُ: مَاتَ.

قَالَ: آللَّهِ! قُلْتُ آللَّهِ.

قَالَ: فضع يدل عَلَى رَأْسِي وَاحْلِفْ بِحَيَاتِهِ، فَفَعَلْتُ.

فَقَالَ يَا غُلَامُ أَخْرِجْ مَا فِي (١) هَذَا الْبَيْتِ، فَخَرَجَ الْعَلَوِيُّ فَأُسْقِطَ فِي يَدِي، فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: دَمُكَ لِي حَلَالٌ.

ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُلْقِيَ فِي بِئْرٍ فِي الْمُطْبِقِ.

قَالَ يَعْقُوبُ: فَكُنْتُ فِي مَكَانٍ لَا أَسْمَعُ فِيهِ وَلَا أُبْصِرُ، فَذَهَبَ بصري وطال شعري حتى ثرث مِثْلَ الْبَهَائِمِ، ثُمَّ مَضَتْ عَلَيَّ مُدَدٌ مُتَطَاوِلَةٌ، فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ دُعِيتُ فَخَرَجْتُ من البئر فَقِيلَ لِي: سَلِّمْ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.

فَسَلَّمْتُ وأنا أظنه المهدي، فلما ذكرت المهدي قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ الْمَهْدِيَّ.

فَقُلْتُ: الْهَادِي؟ فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ الْهَادِي.

فَقُلْتُ: الرَّشِيدُ؟ قَالَ: نَعَمْ.

فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ رَأَيْتَ مَا حَلَّ بِي مِنَ الضَّعْفِ وَالْعِلَّةِ، فَإِنْ رَأَيْتَ أن تطلقني.

فقال: أين تريد؟ قُلْتُ: مَكَّةُ.

فَقَالَ: اذْهَبْ رَاشِدًا، فَسَارَ إِلَى مَكَّةَ فَمَا لَبِثَ بِهَا إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَدْ كَانَ يَعْقُوبُ هَذَا يَعِظُ الْمَهْدِيَّ فِي تَعَاطِيهِ شُرْبَ النَّبِيذِ بين يديه، وكثرة سماع الغناء فكان يلومه عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُ: مَا عَلَى هَذَا اسْتَوْزَرْتَنِي، وَلَا عَلَى هَذَا صَحِبْتُكَ، أَبَعْدَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ في المسجد الحرام يشرب الخمر ويغني بين يديك؟ فيقول له المهدي: فَقَدْ سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، فَقَالَ له يعقوب: إن ذلك لم يكن له مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا قُرْبَةً لَكَانَ كلما داوم عليه العبد أفضل.

وفي ذلك يقول بعض الشعراء حثاً للمهدي على ذلك:

فَدَعْ عَنْكَ يَعْقُوبَ بْنَ دَاوُدَ جَانِبًا * وَأَقْبِلْ عَلَى صَهْبَاءَ طَيِّبَةِ النَّشْرِ وَفِيهَا ذَهَبَ الْمَهْدِيُّ إلى قصره المسمى بعيسا باذ - بُنِيَ لَهُ بِالْآجُرِّ بَعْدَ الْقَصْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي بَنَاهُ بِاللَّبِنِ - فَسَكَنَهُ وَضَرَبَ هُنَاكَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ.

وَفِيهَا أَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِإِقَامَةِ الْبَرِيدِ بَيْنَ مَكَّةَ والمدينة واليمن ولم يفعل أحد هَذَا قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ.

وَفِيهَا خَرَجَ مُوسَى الهادي إلى جرجان.

وفيها ولي القضاء أبا يوسف (٢) صاحب أبي حنيفة.

وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ محمد عامل الكوفة.

ولم يكن


(١) في الفخري ص ١٨٦: من في هذا البيت.
(٢) وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ خنيس بن سعد بن حبنة الانصاري.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>