للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرشيد على حالة انفرد بها، ولم يشاركه فيها أحد.

وَكَانَ سَمْحَ الْأَخْلَاقِ طَلْقَ الْوَجْهِ ظَاهِرَ الْبِشْرِ.

أما جُودُهُ وَسَخَاؤُهُ وَبَذْلُهُ وَعَطَاؤُهُ فَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يذكر.

وكان أيضاً من ذوي الفصاحة والمذكورين بالبلاغة.

وروى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُهَذَّبٍ حَاجِبِ العبَّاس بْنِ مُحَمَّدٍ صَاحِبِ قَطِيعَةِ الْعَبَّاسِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ أَنَّهُ أَصَابَتْهُ فاقة وضائقة، وكان عليه ديون، فألح عليه المطالبون وعنده سفط فيه جواهر شراؤه عليه ألف ألف، فأتى به جعفراً فعرضه عليه وأخبره بما هو عليه من الثمن، وأخبره بإلحاح المطالبين بديونهم، وأنه لم يبق له سوى هذا السفط.

فقال: قد اشتريته منك بألف ألف ثم أقبضه المال وقبض السفط منه، وكان ذلك ليلاً.

ثم أمر من ذهب بالمال إلى منزله وأجلسه معه في السمر تِلْكَ اللَّيلة، فلمَّا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ إِذَا السفط قد سبقه إلى منزله أيضاً.

قال فلما أصبحت غدوت إلى جعفر لا تشكر له فوجدته مَعَ أَخِيهِ الْفَضْلِ عَلَى بَابِ الرَّشِيدِ يَسْتَأْذِنَانِ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: إِنِّي قَدْ ذَكَرْتُ أَمْرَكَ لِلْفَضْلِ، وَقَدْ أَمَرَ لَكَ بِأَلْفِ أَلْفٍ، وما أظنها إلا قد سبقتك إلى منزلك، وَسَأُفَاوِضُ فِيكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.

فَلَمَّا دَخَلَ ذَكَرَ له أَمْرَهُ وَمَا لَحِقَهُ مِنَ الدُّيُونِ فَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.

وَكَانَ جَعْفَرٌ لَيْلَةً فِي سمره عند بعض أصحابه (١) فجاءت الخنفساء فركبت ثِيَابَ الرَّجُلِ فَأَلْقَاهَا عَنْهُ جَعْفَرٌ وَقَالَ: إنَّ النَّاس يقولون: مَنْ قَصَدَتْهُ الْخُنْفُسَاءُ يُبَشَّرُ بِمَالٍ يُصِيبُهُ.

فَأَمَرَ لَهُ جَعْفَرٌ بِأَلْفِ دِينَارٍ.

ثُمَّ عَادَتِ الْخُنْفُسَاءُ، فَرَجَعَتْ إِلَى الرَّجُلِ فَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ أُخْرَى.

وَحَجَّ مَرَّةً مَعَ الرَّشِيدِ فَلَمَّا كَانُوا بِالْمَدِينَةِ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: انْظُرْ جَارِيَةً اشتريها تكون فائقة في الجمال والغناء والدعابة، فَفَتَّشَ الرَّجُلُ فَوَجَدَ جَارِيَةً عَلَى النَّعْتِ فَطَلَبَ سَيِّدُهَا فِيهَا مَالًا كَثِيرًا عَلَى أَنْ يَرَاهَا جَعْفَرٌ، فَذَهَبَ جَعْفَرٌ إِلَى مَنْزِلِ سَيِّدِهَا فَلَمَّا رَآهَا أُعْجِبَ بِهَا، فَلَمَّا غَنَّتْهُ أَعْجَبَتْهُ أَكْثَرَ، فساومه صاحبها فيها، فقال له جعفر: قد أحصرنا مَالًا فَإِنْ أَعْجَبَكَ وَإِلَّا زِدْنَاكَ، فَقَالَ لَهَا سَيِّدُهَا: إِنِّي كُنْتُ فِي نِعْمَةٍ وَكُنْتِ عِنْدِي في غاية السرور، وإنه قد انقبض علي حالي، وإني قد أحببت أن

أبيعك لهذا الملك، لكي تكوني عنده كما كنت عندي.

فقالت له الجارية: والله يا سيدي لو ملكت منك كما مَلَكْتَ مِنِّي لَمْ أَبِعْكَ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَأَيْنَ مَا كُنْتَ عَاهَدْتَنِي أَنْ لَا تَبِيعَنِي ولا تأكل من ثَمَنِي.

فَقَالَ سَيِّدُهَا لِجَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ: أُشْهِدُكُمْ أَنَّهَا حرَّة لوجه الله، وَأَنِّي قَدْ تَزَوَّجْتُهَا.

فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ نَهَضَ جَعْفَرٌ وَقَامَ أَصْحَابُهُ وَأَمَرُوا الْحَمَّالَ أَنْ يَحْمِلَ المال.

فقال جعفر: والله لا يتبعني، وقال للرجل: قد ملكتك هذا المال فأنفقه عَلَى أَهْلِكَ، وَذَهَبَ وَتَرَكَهُ.

هَذَا وَقَدْ كَانَ يُبَخَّلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَخِيهِ الْفَضْلِ، إِلَّا أَنَّ الْفَضْلَ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ مَالًا.

وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الدَّارَقُطْنِيِّ بِسَنَدِهِ أَنَّهُ لَمَّا أُصِيبَ جَعْفَرٌ وَجَدُوا لَهُ فِي جَرَّةٍ أَلْفَ دينار، زنة كل دينار


(١) الرواية في ابن خلكان وذكر: أنه كان عنده أبو عبيد الثقفي ... وذكر تمام الرواية ١ / ٣٣١.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>