للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُلْتُ: فَهَذَا الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قَالَ: ثُمَّ تَكَلَّمَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ بِكَلَامٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، وَذَلِكَ أني لَمْ أَتَفَقَّهْ كَلَامَهُ، ثُمَّ قَالَ الْمُعْتَصِمُ: لَوْلَا أَنَّكَ كُنْتَ فِي يَدِ مَنْ كَانَ قَبْلِي لَمْ أَتَعَرَّضْ إِلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَلَمْ آمُرْكَ أَنْ تَرْفَعَ الْمِحْنَةَ؟ قَالَ أَحْمَدُ: فَقُلْتُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا فَرَجٌ لِلْمُسْلِمِينَ، ثم قال: ناظره يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، كَلِّمْهُ.

فَقَالَ لِي عَبْدُ الرحمن [بن إسحاق الشافعي] (١) : مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقَالَ الْمُعْتَصِمُ: أَجِبْهُ فَقُلْتُ: مَا تَقُولُ فِي الْعِلْمِ؟ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ: الْقُرْآنُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ، فَسَكَتَ فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كفَّرك وكفَّرنا، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ذَلِكَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: كَانَ اللَّهُ وَلَا قُرْآنَ، فَقُلْتُ: كَانَ اللَّهُ وَلَا عِلْمَ؟ فَسَكَتَ.

فَجَعَلُوا يتكلمون من ههنا وههنا، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَعْطُونِي شَيْئًا مِنْ كتاب الله أو سنة رسوله حَتَّى أَقُولَ بِهِ، فَقَالَ: ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ: وَأَنْتَ لَا تَقُولُ إِلَّا بِهَذَا وَهَذَا؟ فَقُلْتُ: وهل يقوم الإسلام إلا بهما.

وجرت مُنَاظَرَاتٌ طَوِيلَةٌ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ ربهم محدث) [الانبياء: ٢] وبقوله (اللَّهُ خَالِقُ كل شئ) [الرعد: ١٦] وَأَجَابَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بقوله (تُدَمِّرُ كُلَّ شئ بِأَمْرِ رَبِّهَا) [الأحقاف: ٢٥] فَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ: هُوَ وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ضالٌ مضلٌ مبتدعٌ، وهنا قُضَاتُكَ وَالْفُقَهَاءُ فَسَلْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ؟ فَأَجَابُوا بِمِثْلِ مَا قَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ، ثم أحضروه في اليوم الثاني وناظروه أيضاً ثم في اليوم الثالث، وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَعْلُو صَوْتُهُ عَلَيْهِمْ، وَتَغْلِبُ حُجَّتُهُ حُجَجَهُمْ.

قَالَ: فَإِذَا سَكَتُوا فَتَحَ الْكَلَامَ عليهم ابن أبي دؤاد، وكان من أجهلهم بِالْعِلْمِ وَالْكَلَامِ، وَقَدْ تَنَوَّعَتْ بِهِمُ الْمَسَائِلُ فِي الْمُجَادَلَةِ وَلَا عِلْمَ لَهُمْ بِالنَّقْلِ، فَجَعَلُوا يُنْكِرُونَ الآثار ويردون الاحتجاج بها، وسمعت مِنْهُمْ مَقَالَاتٍ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا يقولها، وقد تكلم معي ابن غوث (٢) بِكَلَامٍ طَوِيلٍ ذَكَرَ فِيهِ الْجِسْمَ وَغَيْرَهُ

بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي مَا تَقُولُ، إِلَّا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَحَدٌ صمد، ليس كمثله شئ، فَسَكَتَ عَنِّي.

وَقَدْ أَوْرَدْتُ لَهُمْ حَدِيثَ الرُّؤْيَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَحَاوَلُوا أَنْ يُضَعِّفُوا إِسْنَادَهُ ويلفقوا عن بعض المحدثين كاملا يَتَسَلَّقُونَ بِهِ إِلَى الطَّعْنِ فِيهِ، وَهَيْهَاتَ، وَأَنَّى لهم التناوش من كان بعيد؟ وَفِي غُبُونِ ذَلِكَ كُلِّهِ يَتَلَطَّفُ بِهِ الْخَلِيفَةُ وَيَقُولُ: يَا أَحْمَدُ أَجِبْنِي إِلَى هَذَا حَتَّى أَجْعَلَكَ مِنْ خَاصَّتِي وَمِمَّنْ يَطَأُ بِسَاطِي.

فَأَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَأْتُونِي بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُجِيبَهُمْ إِلَيْهَا.

وَاحْتَجَّ أحمد عليهم حين أنكروا الآثار بقوله تعالى (يَا أبة لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا) [مريم: ٤٢] وَبُقُولِهِ: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) [النساء: ١٦٣] وَبِقَوْلِهِ (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) [طه: ١٤] وبقوله: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لشئ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل: ٤٠] ونحو ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ لَهُمْ مَعَهُ حُجَّةٌ عَدَلُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ جَاهِ الْخَلِيفَةِ، فقالوا: يا أمير


(١) من مناقب أحمد لابن الجوزي ص ٣٢٢.
(٢) في هامش الاصل: لعله ابن غياث وهو المريسي: وفي المنهج الاحمد ١ / ٨٤: بشر المريسي.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>