للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو بَكْرٍ الفقيه ابن الفقيه الظَّاهِرِيِّ، كَانَ عَالِمًا بَارِعًا أَدِيبًا شَاعِرًا فَقِيهًا ماهراً، له كِتَابِ الزُّهَرَةِ اشْتَغَلَ عَلَى أَبِيهِ وَتَبِعَهُ فِي مذهبه ومسلكه وما اختاره من الطرائق وارتضاه، وَكَانَ أَبُوهُ يُحِبُّهُ وَيُقَرِّبُهُ وَيُدْنِيهِ.

قَالَ رُوَيْمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: كُنَّا يَوْمًا عِنْدَ دَاوُدَ إِذْ جاء ابنه هذا بَاكِيًا فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ الصِّبْيَانَ يُلَقِّبُونَنِي عُصْفُورَ الشَّوْكِ.

فَضَحِكَ أَبُوهُ فَاشْتَدَّ غَضَبُ الصبي وقال لأبيه: أَنْتَ أَضَرُّ عَلَيَّ مِنْهُمْ، فَضَمَّهُ أَبَوْهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مَا الْأَلْقَابُ إِلَّا مِنَ السَّمَاءِ مَا أَنْتَ يَا بُنَيَّ إِلَّا عُصْفُورُ الشَّوْكِ.

وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ أُجْلِسَ فِي مَكَانِهِ فِي الْحَلْقَةِ فَاسْتَصْغَرَهُ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ، فَسَأَلَهُ سَائِلٌ يَوْمًا عَنْ حَدِّ السُّكر فقال: إذا غربت (١) عنه الفهوم وباح بسره المكتوم.

فاستحسن الحاضرون منه ذلك وَعَظُمَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ: وَقَدِ ابْتُلِيَ بِحُبِّ صَبِيٍّ اسْمُهُ محمد بن جامع ويقال محمد بن زحرف فَاسْتَعْمَلَ الْعَفَافَ وَالدِّينَ فِي حُبِّهِ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ فِيهِ حَتَّى كَانَ سَبَبُ وَفَاتِهِ فِي ذَلِكَ.

قُلْتُ: فَدَخَلَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا عَنْهُ: " مَنْ عَشِقَ فَكَتَمَ فَعَفَّ فَمَاتَ مَاتَ شَهِيدًا ".

وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ أنَّه كَانَ يُبِيحُ الْعِشْقَ بِشَرْطِ الْعَفَافِ.

وَحَكَى هُوَ عَنْ نَفْسِهِ أنَّه لَمْ يَزَلْ يَتَعَشَّقُ مُنْذُ كَانَ فِي الكتَّاب وأنه صنف كتاب الزهرة في ذلك في صغره، ورد ما وَقَفَ أَبُوهُ دَاوُدُ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ، وَكَانَ يتناظر هو وأبو العباس بن شريح (٢) كَثِيرًا بِحَضْرَةِ الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ فَيَعْجَبُ النَّاسُ مِنْ مُنَاظَرَتِهِمَا وَحُسْنِهَا، وَقَدْ قال له ابن شريح (٢) يَوْمًا فِي مُنَاظَرَتِهِ: أَنْتَ بِكِتَابِ الزُّهَرَةِ أَشْهَرُ مِنْكَ بِهَذَا.

فَقَالَ لَهُ: تُعَيِّرُنِي بِكِتَابِ الزُّهَرَةِ وأنت لا تحسن تشتم قِرَاءَتَهُ، وَهُوَ كِتَابٌ جَمَعْنَاهُ هَزْلًا فَاجْمَعْ أَنْتَ مثله جداً.

وقال القاضي أبو عمر: كُنْتُ يَوْمًا أَنَا وَأَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُدَ راكبين فإذا جارية تغني بشئ من شعره: أشكو إليك فؤاداً أَنْتَ متلفهُ * شَكْوَى عليلٍ إِلَى إلفٍ يُعَلِّلُهُ

سُقمي تَزِيدُ عَلَى الْأَيَّامِ كثرتهُ * وَأَنْتَ فِي عُظْمِ مَا أَلْقَى تقلِّلهُ اللَّهُ حرمَ قَتْلِي فِي الْهَوَى أَسَفًا * وَأَنْتَ يَا قَاتِلِي ظُلْمًا تحلِّلهُ فقال أبو بكر: كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى اسْتِرْجَاعِ هَذَا؟ فَقُلْتُ: هَيْهَاتَ سار بِهِ الرُّكْبَانُ.

كَانَتْ وَفَاةُ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ رحمه الله فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَجَلَسَ ابْنُ شريح (٢) لعزاه وقال: ما أثني إِلَّا عَلَى التُّرَابِ الَّذِي أَكَلَ لِسَانَ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ.

مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَبُو جَعْفَرٍ، حَدَّثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَخَلْقٍ، وعنه ابن صاعد والخلدي


(١) في وفيات الاعيان ٤ / ٢٥٩: عزبت عنه الهموم.
(٢) في الوفيات: سريج (*) .

<<  <  ج: ص:  >  >>