للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَدْ جَمَعَ مِنَ الْعُلُومِ مَا لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ، وَكَانَ حَافِظًا لكتاب الله، عارفاً بالقراءات

كلها، بَصِيرًا بِالْمَعَانِي، فَقِيهًا فِي الْأَحْكَامِ، عَالِمًا بِالسُّنَنِ وَطُرُقِهَا وَصَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا، وَنَاسِخِهَا وَمَنْسُوخِهَا، عَارِفًا بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، عَارِفًا بِأَيَّامِ النَّاسِ وَأَخْبَارِهِمْ.

وَلَهُ الْكِتَابُ الْمَشْهُورُ فِي تَارِيخِ الْأُمَمِ والملوك، وكتاب التَّفْسِيرِ لَمْ يُصَنِّفْ أَحَدٌ مِثْلَهُ.

وَكِتَابٌ سَمَّاهُ تَهْذِيبَ الْآثَارِ لَمْ أَرَ سِوَاهُ فِي مَعْنَاهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُتِمَّهُ (١) .

وَلَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ وَاخْتِيَارَاتٌ، وَتَفَرَّدَ بِمَسَائِلَ حُفِظَتْ عَنْهُ.

قَالَ الْخَطِيبُ: وَبَلَغَنِي عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي طَاهِرٍ الْفَقِيهِ الأسفرائيني أَنَّهُ قَالَ: لَوْ سَافَرَ رَجُلٌ إِلَى الصِّينِ حتى ينظر في كتاب تفسير ابن جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَثِيرًا، أَوْ كما قال.

وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ إِمَامِ الْأَئِمَّةِ أَبِي بَكْرٍ بن خزيمة أنه طالع تفسير محمد بن جَرِيرٍ فِي سِنِينَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، ثمَّ قَالَ: مَا أَعْلَمُ عَلَى أَدِيمِ الْأَرْضِ أَعْلَمَ مِنِ ابْنِ جَرِيرٍ، وَلَقَدْ ظَلَمَتْهُ الْحَنَابِلَةُ.

وقال محمد لِرَجُلٍ رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ عَنِ الْمَشَايِخِ - وَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ سَمَاعٌ مِنِ ابْنِ جَرِيرٍ لِأَنَّ الْحَنَابِلَةَ كَانُوا يَمْنَعُونَ أَنْ يَجْتَمِعَ به أحد - فقال ابن خزيمة: لَوْ كَتَبْتَ عَنْهُ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ مِنْ كلِّ مَنْ كَتَبْتَ عَنْهُ.

قُلْتُ: وَكَانَ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالْقِيَامِ فِي الْحَقِّ لَا تأخذه في ذلك لومة لائم، وكان حسن الصوت بالقراءة مع المعرفة التامة بالقراءات عَلَى أَحْسَنِ الصِّفَاتِ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ، وهو أحد المحدثين الذي اجتمعوا في مصر في أيام ابن طُولُونَ، وَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ إمام الأئمة، ومُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الروياني، ومحمَّد بن جرير الطبري هذا.

وقد ذكرناهم فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَكَانَ الذي قام فصلى هو مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَقِيلَ مُحَمَّدُ بن نصر، فرزقهم الله.

وقد أراد الخليفة المقتدر (٢) في بعض الأيام أَنْ يَكْتُبَ كِتَابَ وَقْفٍ تَكُونُ شُرُوطُهُ مُتَّفَقًا عليها بين العلماء، فَقِيلَ لَهُ: لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِحْضَارِ ذَلِكَ إلا محمد بن جرير الطبري، فطلب منه ذلك فكتب له، فاستدعاه الخليفة إليه وقرب منزلته عنده.

وَقَالَ لَهُ: سَلْ حَاجَتَكَ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لي.

فقال لا بدَّ أن تسألني حاجة أو شَيْئًا.

فَقَالَ: أَسْأَلُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَمْرُهُ إِلَى الشُّرْطَةِ حَتَّى يَمْنَعُوا السؤَّال يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْ يَدْخُلُوا إِلَى مَقْصُورَةِ الْجَامِعِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِذَلِكَ.

وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ مَنْ مَغَلِّ قَرْيَةٍ تَرَكَهَا لَهُ أَبُوهُ بِطَبَرِسْتَانَ.

وَمِنْ شِعْرِهِ:

إِذَا أَعْسَرْتُ لَمْ يَعْلَمْ رَفِيقِي (٣) * وَأَسْتَغْنِي فَيَسْتَغِنِي صَدِيقِي

حَيَائِي حَافِظٌ لِي مَاءَ وَجْهِي * وَرِفْقِي فِي مُطَالَبَتِي رَفِيقِي

وَلَوْ أَنِّي سَمَحْتُ بِبَذْلِ وَجْهِي * لَكُنْتُ إِلَى الْغِنَى سَهْل الطريق


(١) وهو من عجائب كتبه ابتدأ بما رواه أبو بكر الصديق مما صح، وتكلم عليّ كل حديث وعلته وطرقه وما فيه من الفقه واختلاف العلماء وحججهم واللغة.
(٢) في تذكرة الحفاظ: ١ / ٧١١: المكتفي.
(٣) في الوفيات ٤ / ١٩٢: شقيقي (*) .

<<  <  ج: ص:  >  >>