للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الهروب، فأرادت الخاتون أن تقبض عليه فتحول عنها إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَنُهِبَتْ دَارُهُ وَقُطِعَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ، وَرَكِبَتْ الْخَاتُونُ فِي جُمْهُورِ الجيش، وذهبت إلى همذان لأجل زَوْجَهَا، وَسَارَ الْكُنْدُرِيُّ وَمَعَهُ أَنُوشِرْوَانَ بْنُ تُومَانَ وأم الْخَاتُونُ الْمَذْكُورَةُ، وَمَعَهَا بَقِيَّةُ الْجَيْشِ إِلَى بِلَادِ الْأَهْوَازِ وَبَقِيَتْ بَغْدَادُ لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ مِنَ المقاتلة، فعزم الخليفة على الخروج منها، وَلَيْتَهُ فَعَلَ، ثُمَّ أَحَبَّ دَارَهُ وَالْمُقَامَ مَعَ أهله، فمكث فيها اغتراراً ودعة، ولما خلى الْبَلَدُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ قِيلَ لِلنَّاسِ: مَنْ أَرَادَ الرحيل من بغداد فَلْيَذْهَبْ حَيْثُ شَاءَ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ وَبَكَى الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ، وَعَبَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَبَلَغَتِ الْمِعْبَرَةُ دِينَارًا وَدِينَارَيْنِ لِعَدَمِ الْجِسْرِ.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَطَارَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ نَحْوُ عَشْرِ بُومَاتٍ مُجْتَمِعَاتٍ يَصِحْنَ صِيَاحًا مُزْعِجًا، وَقِيلَ لِرَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ المصلحة أن الخليفة يرتحل لعدم المقاتلة فَلَمْ يَقْبَلْ، وَشَرَعُوا فِي اسْتِخْدَامِ طَائِفَةٍ مِنَ العوام، ودفع إليهم سلاح كثير مِنْ دَارِ الْمَمْلَكَةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ الثَّامِنِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ جاء الْبَسَاسِيرِيُّ إِلَى بَغْدَادَ وَمَعَهُ الرَّايَاتُ الْبِيضُ الْمِصْرِيَّةُ، وعلى رأسه أعلام مكتوب عليها اسم الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ أَبُو تَمِيمٍ مَعَدٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فتلقاه أهل الكرخ الرافضة وسألوه أن يجتاز من عندهم، فدخل الكرخ وخرج إلى مشرعة الزاويا، فخيم بها والناس إذ ذاك في مجاعة وضر شديد، وَنَزَلَ قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَتَيْ فَارِسٍ عَلَى مَشْرَعَةِ بَابِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ الْبَسَاسِيرِيُّ، قَدْ جَمَعَ الْعَيَّارِينَ وَأَطْمَعَهُمْ فِي نَهْبِ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَنَهَبَ أَهْلُ الْكَرْخِ دُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِبَابِ الْبَصْرَةِ، وَنُهِبَتْ دَارُ قَاضِي الْقُضَاةِ الدامغاني، وتملك أكثر السجلات والكتب الحكمية، وبيعت للعطارين، ونهبت دور المتعلقين بخدمة الخليفة، وَأَعَادَتِ الرَّوَافِضُ الْأَذَانَ بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وأذن به في سائر نواحي بغداد في الجمعات والجماعات وخطب ببغداد للخليفة المستنصر العبيدي، على منابرها وغيرها، وَضُرِبَتْ لَهُ السِّكَّةُ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَحُوصِرَتْ دار الخلافة، فجاحف الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ الْمُلَقَّبُ بِرَئِيسِ الرؤساء، بمن معه من المستخدمين دونه فَلَمْ يَفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَرَكِبَ الْخَلِيفَةُ

بِالسَّوَادِ والبردة، وَعَلَى رَأْسِهِ اللِّوَاءُ وَبِيَدِهِ سَيْفٌ مُصَلَّتٌ، وَحَوْلَهُ زمرة من العباسيين والجواري حاسرات عن وجوههن، ناشرات شعورهن، ومعهن المصاحف على رؤوس الرِّماح، وبين يديه الخدم بالسيوف، ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ أَخَذَ ذِمَامًا مِنْ أَمِيرِ العرب قريش ليمنعه وَأَهْلِهِ وَوَزِيرِهِ ابْنِ الْمُسْلِمَةِ، فَأَمَّنَهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنْزَلَهُ فِي خَيْمَةٍ، فَلَامَهُ الْبَسَاسِيرِيُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ مَا كَانَ وَقَعَ الاتفاق عليه بيني وبينك، من أنك لا تبت بِرَأْيِ دُونِي، وَلَا أَنَا دُونَكَ، وَمَهْمَا مَلَكْنَا بيني وبينك.

ثم إن البساسيري أخذ القاسم بن مسلمة فوبخه توبيخاً مفضحاً، وَلَامَهُ لَوْمًا شَدِيدًا ثُمَّ ضَرَبَهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، وَاعْتَقَلَهُ مُهَانًا عِنْدَهُ، وَنَهَبَتِ الْعَامَّةُ دَارَ الْخِلَافَةِ، فَلَا يُحْصَى مَا أَخَذُوا مِنْهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ والنفائس، والديباج والذهب والفضة، والثياب والأثاث، والدواب وغير ذلك، مما لا يحد ولا يوصف.

ثم اتفق رأي البساسيري وقريش على أن يسيروا الخليفة إِلَى أَمِيرِ حَدِيثَةِ عَانَةَ، وَهُوَ

<<  <  ج: ص:  >  >>