للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الكبار، من رؤس الشَّافِعِيَّةِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمَائَةٍ، وَاشْتَغَلَ عَلَى إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَكَانَ هُوَ وَالْغَزَّالِيُّ أَكْبَرَ التَّلَامِذَةِ، وَقَدْ وَلِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَقَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ هَذَا فَصِيحًا جَهْوَرِيَّ الصوت جميلاً، وكان يكرر لعن إبليس على كل مرقاة من مراقي النِّظَامِيَّةِ بِنَيْسَابُورَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَكَانَتِ الْمَرَاقِي سَبْعِينَ مَرْقَاةً، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَنَاظَرَ وَأَفْتَى ودرّس، وكان من أكابر الفضلاء وَسَادَاتِ الْفُقَهَاءِ، وَلَهُ كِتَابٌ يَرُدُّ فِيهِ عَلَى مَا انْفَرَدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُجَلَّدٍ، وَلَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ، وَقَدِ اتُّهِمَ فِي وَقْتٍ بِأَنَّهُ يُمَالِئُ الْبَاطِنِيَّةَ، فَنُزِعَ مِنْهُ التَّدْرِيسُ ثُمَّ شَهِدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِبَرَاءَتِهِ مِنْ ذَلِكَ مِنْهُمُ ابْنُ عَقِيلٍ، فَأُعِيدَ إليه.

توفي في يوم الخميس مستهل محرم مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ.

وذكر ابْنُ خَلِّكَانَ: أَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ الْحَدِيثَ وَيُنَاظِرُ بِهِ، وَهُوَ الْقَائِلُ: إِذَا جَالَتْ فُرْسَانُ الْأَحَادِيثِ في ميادين الكفاح، طارت رؤوس الْمَقَايِيسِ فِي مَهَابِّ الرِّيَاحِ، وَحَكَى السَّلَفِيُّ عَنْهُ: أنه استفتي في كتبة الحديثة هَلْ يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْفُقَهَاءِ؟ فَأَجَابَ: نَعَمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ حَفِظَ على أمتي أربعين حديثاً بعثه الله عالماً ".

واستفتي في يزيد بن معاوية فذكر عنه تلاعباً وفسقاً، وجوز شَتْمَهُ، وَأَمَّا الْغَزَّالِيُّ فَإِنَّهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ، ومنع من شتمه ولعنه، لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِأَنَّهُ رَضِيَ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسَوِّغًا لِلَعْنِهِ، لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يُلْعَنُ، لَا سِيَّمَا وباب التوبة مفتوح، والذي يقبل التوبة من عباده غَفُورٌ رَحِيمٌ.

قال الغزالي: وَأَمَّا التَّرَحُّمُ عَلَيْهِ فَجَائِزٌ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ، بَلْ نَحْنُ نَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ فِي جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، عُمُومًا فِي الصَّلَوَاتِ.

ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ مَبْسُوطًا بِلَفْظِهِ فِي تَرْجَمَةِ إِلْكِيَا هَذَا، قَالَ: وَإِلْكِيَا كبير القدر مقدم معظم والله أعلم.

[ثم دخلت سنة خمس وخمسمائة.]

فيها بعث السلطان غياث الدين جيشاً كثيفاً، صحبة الأمير مودود بن زنكي صاحب الموصل، في جملة أمراء ونواب، منهم سكمان القطبي، صاحب تبريز، وأحمد يل صاحب مراغة، والأمير إيلغازي صاحب ماردين (١) ، وعلى الْجَمِيعِ الْأَمِيرُ مَوْدُودٌ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ بِالشَّامِ، فَانْتَزَعُوا مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ حُصُونًا كَثِيرَةً، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً ولله الحمد، وَلَمَّا دَخَلُوا دِمَشْقَ دَخَلَ الْأَمِيرُ مَوْدُودٌ إِلَى جَامِعِهَا لِيُصَلِّيَ فِيهِ فَجَاءَهُ بَاطِنِيٌّ فِي زِيِّ سائل فطلب منه شيئاً فأعطاه، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُ ضَرَبَهُ فِي فُؤَادِهِ فَمَاتَ من ساعته (٢) ، وَوُجِدَ رَجُلٌ أَعْمَى فِي سَطْحِ الْجَامِعِ بِبَغْدَادَ معه


(١) لم يشارك الامير إيلغازي في الجيش، بل سير ولده إياز وأقام هو.
(الكامل ١٠ / ٤٨٥) وفي تاريخ ابن خلدون ٥ / ١٩٤: إياز أخو أبي الغازي صاحب ماردين.
(٢) قال ابن الأثير في تاريخه أن قتله كان سنة ٥٠٧ هـ في ربيع الأول، وفي رواية أخرى قال: وقيل خافه طغتكين فوضع عليه من قتله.
وهذا أيضا ما أشار إليه ابن خلدون ٥ / ١٩٥.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>