للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ردهم إلى طاعة الخليفة، ونصرة الإسلام، فحاصرها مدة ثم رحل عنها وَلَمْ يَفْتَحْهَا، وَسَارَ إِلَى خِلَاطَ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى بُلْدَانٍ كَثِيرَةٍ، وَأَقَالِيمَ جَمَّةٍ بِبِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَدِيَارِ بكر، وجرت أمور استقصاها ابن الأثير في كامله، وَصَاحِبُ الرَّوْضَتَيْنِ، ثُمَّ وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوَاصِلَةِ، عَلَى أَنْ يَكُونُوا مَنْ جُنْدِهِ

إِذَا نَدَبَهُمْ لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ، وَعَلَى أَنْ يَخْطُبَ لَهُ وتضرب له السكة، ففعلوا ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ كُلِّهَا، وَانْقَطَعَتْ خُطْبَةُ السلاجقة والأزيقية بتلك البلاد كلِّها، ثمَّ اتفق مرض السلطان بعد ذلك مرضاً شديداً، فكان يتجلد ولا يظهر شيئاً من الألم حَتَّى قَوِيَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَتَزَايَدَ الْحَالُ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى حَرَّانَ فَخَيَّمَ هُنَالِكَ مِنْ شِدَّةِ ألمه، وشاع ذلك في البلاد، وخاف الناس عليه وأرجف الكفرة والملحدون بموته، وقصده أخوه الْعَادِلُ مِنْ حَلَبَ بِالْأَطِبَّاءِ وَالْأَدْوِيَةِ، فَوَجَدَهُ فِي غياة الضعف، وأشار عليه بأن يوصي، فَقَالَ: مَا أُبَالِي وَأَنَا أَتْرُكُ مِنْ بَعْدِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا - يَعْنِي أَخَاهُ العادل وَتَقِيَّ الدِّينِ عُمَرَ صَاحِبَ حَمَاةَ وَهُوَ إِذْ ذَاكَ نَائِبُ مِصْرَ، وَهُوَ بِهَا مُقِيمٌ، وَابْنَيْهِ العزيز عثمان والأفضل علياً - ثم نذر لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ مِنْ مَرَضِهِ هَذَا لَيَصْرِفَنَّ همته كلها إلى قتال الفرنج، ولا يقاتل بعد ذلك مسلماً، وليجعل أَكْبَرَ هَمِّهِ فَتْحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلَوْ صَرَفَ في سبيل الله جَمِيعَ مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالذَّخَائِرِ، وَلَيَقْتُلَنَّ البرنس صاحب الكرك بيده، لأنه نقض العهد وتنقص الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه أخذ قافلة ذاهبة من مصر إلى الشام، فأخذ أموالهم وضرب رقابهم، وهو يقول: أين محمدكم؟ دعوه يَنْصُرُكُمْ، وَكَانَ هَذَا النَّذْرُ كُلُّهُ بِإِشَارَةِ الْقَاضِي الفاضل، وهو أرشده إليه وحثه عليه، حتى عقده مع الله عزوجل، فعند ذلك شفاه الله وعافاه مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، كَفَّارَةٌ لذنوبه، وجاءت البشارات بذلك من كل ناحية، فدقت البشائر وزينت البلاد، وكتب الْفَاضِلُ مِنْ دِمَشْقَ وَهُوَ مُقِيمٌ بِهَا إِلَى المظفر عمر أن العافية الناصرية قد استقامت واستفاضت أخبارها، وطلعت بعد الظلمة أنوارها، وظهرت بعد الاختفاء آثارها، وولت العلة ولله الحمد والمنة، وطفئت نَارُهَا، وَانْجَلَى غُبَارُهَا، وَخَمَدَ شَرَارُهَا، وَمَا كَانَتْ إلا فلتة وقى الله شرها وشنارها، وعظيمة كفى الله الإسلام عارها، وتوبة امْتَحَنَ اللَّهُ بِهَا نُفُوسَنَا، فَرَأَى أَقَلَّ مَا عندها صبرنا، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ الدُّعَاءَ وَقَدْ أَخْلَصَتْهُ القلوب، ولا تتوقف الْإِجَابَةَ وَإِنْ سَدَّتْ طَرِيقَهَا الذُّنُوبُ، وَلَا لِيُخْلِفَ وَعْدَ فَرَجٍ وَقَدْ أَيِسَ الصَّاحِبُ وَالْمَصْحُوبُ: نعيٌ زَادَ فِيهِ الدَّهْرُ مِيمَا * فَأَصْبَحَ بَعْدَ بُؤْسَاهُ نعيما وما صدق النذير به لأني * رأيت الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَالنُّجُومَا

وَقَدِ اسْتَقْبَلَ مَوْلَانَا السُّلْطَانُ الملك الناصر غَضَّةً جَدِيدَةً، وَالْعُزْمَةَ مَاضِيَةً حَدِيدَةً وَالنَّشَاطَ إِلَى الجهاد، والتوبة لرب العباد، وَالْجَنَّةَ مَبْسُوطَةَ الْبِسَاطِ، وَقَدِ انْقَضَى الْحِسَابُ وَجُزْنَا الصِّرَاطَ، وَعُرِضْنَا نَحْنُ عَلَى الْأَهْوَالِ الَّتِي مِنْ خوفها كاد الجمل يلج بسم الْخِيَاطِ.

ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ مِنْ حَرَّانَ بَعْدَ العافية فدخل حلب، ثم ركب فدخل دمشق، وقد تكاملت عافيته، وقد كان يوماً مشهوداً.

<<  <  ج: ص:  >  >>