للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتحققوا إما الغرق أو القتل، خرقوا جَوَانِبِهَا كُلِّهَا فَغَرِقَتْ، وَلَمْ يَقَدْرِ الْفِرِنْجُ عَلَى أخذ شئ مِنْهَا لَا مِنَ الْمِيرَةِ وَلَا مِنَ الْأَسْلِحَةِ، وَحَزِنَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذَا الْمُصَابِ حُزْنًا عَظِيمًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَكِنْ جَبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْبَلَاءَ بِأَنْ أَحْرَقَ الْمُسْلِمُونَ في هذا اليوم دبابة كانت أربع طبقات، الأولى من الخشب، وَالثَّانِيَةُ مِنْ رَصَاصٍ، وَالثَّالِثَةُ مِنْ حَدِيدٍ، وَالرَّابِعَةُ مِنْ نُحَاسٍ، وَهِيَ مُشْرِفَةٌ عَلَى السُّورِ وَالْمُقَاتِلَةُ فِيهَا، وَقَدْ قَلِقَ أَهْلُ الْبَلَدِ مِنْهَا بِحَيْثُ حَدَّثَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ مِنْ خَوْفِهِمْ مِنْ شَرِّهَا بِأَنْ يَطْلُبُوا الْأَمَانَ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَيُسَلِّمُوا الْبَلَدَ، فَفَرَّجَ الله عن المسلمين وأمكنهم من حريقها، واتفق لهم ذَلِكَ فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي غَرِقَتْ فِيهِ البطشة المذكورة، فأرسل أهل البلد يشكون إلى السلطان شدة الحصار وقوته عليهم، منذ قام ملك الإنكليز لعنه الله، ومع هذا قد مرض هو وجرح ملك الإفرنسيين أَيْضًا وَلَا يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا شِدَّةً وَغِلْظَةً، وعتواً وبغياً، وَفَارَقَهُمُ الْمَرْكِيسُ وَسَارَ إِلَى بَلَدِهِ صُورَ خَوْفًا مِنْهُمْ أَنْ يُخْرِجُوا مُلْكَهَا مِنْ يَدِهِ.

وَبَعَثَ ملك الإنكليز إلى السلطان صلاح الدين يذكر له أَنَّ عِنْدَهُ جَوَارِحَ قَدْ جَاءَ بِهَا مِنَ الْبَحْرِ، وَهُوَ عَلَى نِيَّةِ إِرْسَالِهَا إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهَا قد ضعفت وهو يطلب دجاجاً وطيراً لتقوى بِهِ، فَعَرَفَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَطْلُبُ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ يلطفها به، فأرسل إليه شيئاً كثيراً من ذلك كرماً، ثم أرسل يطلب منه فَاكِهَةً وَثَلْجًا فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَيْضًا، فَلَمْ يُفِدْ مَعَهُ الْإِحْسَانُ، بَلْ لَمَّا عُوفِيَ عَادَ إِلَى شَرٍّ مِمَّا كَانَ، وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ لَيْلًا وَنَهَارًا، فأرسل أهل البلد يقولون للسلطان إما إِنْ تَعْمَلُوا مَعَنَا شَيْئًا غَدًا وَإِلَّا طَلَبْنَا من الفرنج الصلح والأمان، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى السُّلْطَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قد بعث إِلَيْهَا أَسْلِحَةَ الشَّامِ وَالدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ وَسَائِرَ السَّوَاحِلِ، وَمَا كَانَ غَنِمَهُ مِنْ وَقْعَةِ حِطِّينَ وَمِنْ القدس، فهي مشحونة بذلك، فعند ذلك عزم السلطان على الهجوم على العدو، فما أَصْبَحَ رَكِبَ فِي جَيْشِهِ فَرَأَى الْفِرِنْجَ قَدْ رَكِبُوا مِنْ وَرَاءِ خَنْدَقِهِمْ، وَالرَّجَّالَةُ مِنْهُمْ قَدْ ضَرَبُوا سُورًا حَوْلَ الْفُرْسَانِ، وَهُمْ قِطْعَةٌ مِنْ حديد صماء لا ينفذ فيهم شئ، فَأَحْجَمَ عَنْهُمْ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ نُكُولِ جَيْشِهِ عَمَّا يُرِيدُهُ، وَتَحْدُوهُ عَلَيْهِ شَجَاعَتُهُ رَحِمَهُ

اللَّهُ.

هذا وقد اشتد الحصار على البلد وَدَخَلَتِ الرَّجَّالَةُ مِنْهُمْ إِلَى الْخَنْدَقِ وَعَلَّقُوا بَدَنَةً في السُّورِ وَحَشَوْهَا وَأَحْرَقُوهَا، فَسَقَطَتْ وَدَخَلَتِ الْفِرِنْجُ إِلَى الْبَلَدِ، فَمَانَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَقَاتَلُوهُمْ أَشَدَّ الْقِتَالِ، وَقَتَلُوا من رؤسهم ستة أنفس، فاشتد حنق الفرنج على المسلمين جِدًّا بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَجَاءَ اللَّيْلُ فَحَالَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ خَرَجَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ بالبلد أحمد (١) بن المشطوب فاجتمع بملك الإفرنسيين وَطَلَبَ مِنْهُمُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيَتَسَلَّمُونَ مِنْهُ البلد، فلم يجبهم إلى ذلك، وقال له: بعد ما سَقَطَ السُّورُ جِئْتَ تَطْلُبُ الْأَمَانَ؟ فَأَغْلَظَ لَهُ ابن الْمَشْطُوبُ فِي الْكَلَامِ، وَرَجَعَ إِلَى الْبَلَدِ فِي حالة الله بها عليم، فلما أخبر أهل البلد بما وقع خافوا خوفاً شديداً، وأرسلوا إلى السلطان


(١) في الكامل وابن خلدون وابن العبري وأبي الفداء: سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المعروف بالمشطوب.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>