للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عزيزا) [الاحزاب: ٢٥] .

ثمَّ إنَّ ملك الإنكليز لَعَنَهُ اللَّهُ - وَهُوَ أَكْبَرُ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ ذَلِكَ الحين - ظفر ببعض فلول الْمُسْلِمِينَ فَكَبَسَهُمْ لَيْلًا فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرَ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةِ أَسِيرٍ، وَغَنِمَ مِنْهُمْ شَيْئًا كثيراً من الأموال والجمال، والخيل والبغال، وكان جُمْلَةُ الْجِمَالِ ثَلَاثَةَ آلَافِ بَعِيرٍ (١) ، فَتَقَوَّى الْفِرِنْجُ بذلك، وَسَاءَ ذَلِكَ السُّلْطَانَ مَسَاءَةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَخَافَ من غائلة ذلك، واستخدم الإنكليز الجمالة على

الجمال، والخربندية على البغال، والسياس عَلَى الْخَيْلِ، وَأَقْبَلَ وَقَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ جِدًّا، وَصَمَّمَ عَلَى مُحَاصَرَةِ الْقُدْسِ، وَأَرْسَلَ إِلَى مُلُوكِ الْفِرِنْجِ الَّذِينَ بِالسَّاحِلِ، فَاسْتَحْضَرَهُمْ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، فَتَعَبَّأَ السُّلْطَانُ لَهُمْ وَتَهَيَّأَ، وَأَكْمَلَ السُّورَ وعمر الخنادق، ونصب المنجانيق، وَأَمَرَ بِتَغْوِيرِ مَا حَوْلَ الْقُدْسِ مِنَ الْمِيَاهِ، وَأَحْضَرَ السُّلْطَانُ أُمَرَاءَهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ تَاسِعَ عَشَرَ جمادى الآخرة: أبا الهيجاء، المبسمين (٢) ، والمشطوب، والأسدية، فاستشارهم فِيمَا قَدْ دَهَمَهُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ، الْمُوجِعِ الْمُؤْلِمِ، فَأَفَاضُوا فِي ذَلِكَ، وَأَشَارُوا كُلٌّ بِرَأْيهِ، وَأَشَارَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ بِأَنْ يَتَحَالَفُوا عَلَى الْمَوْتِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ.

هَذَا كُلُّهُ وَالسُّلْطَانُ سَاكِتٌ واجم مفكر، فسكت القوم كأنما على رؤوسهم الطَّيْرُ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ: اعْلَمُوا أَنَّكُمْ جُنْدُ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ وَمَنَعَتُهُ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وأموالهم وذراريهم في ذممكم معلقة، والله عزوجل سائلكم يوم القيامة عنهم، وأن هذا العدو ليس له من المسلمين من يلقاه عن العباد والبلاد غيركم، فإن وليتم والعياذ بالله طوى البلاد وأهلك العباد، وأخذ الأموال والأطفال والنساء، وعبد الصليب في المساجد، وعزل القرآن منها والصلاة، وكان ذلك كله في ذممكم، فإنكم أنتم الذين تصديتهم لهذا كله، وأكلتم بيت مال المسلمين لتدفعوا عنهم عدوهم، وتنصروا ضعيفهم، فَالْمُسْلِمُونَ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ مُتَعَلِّقُونَ بِكُمْ وَالسَّلَامُ.

فَانْتَدَبَ لِجَوَابِهِ سَيْفُ الدِّينِ الْمَشْطُوبُ وَقَالَ: يَا مَوْلَانَا نَحْنُ مَمَالِيكُكَ وَعَبِيدُكَ، وَأَنْتَ الَّذِي أَعْطَيْتَنَا وَكَبَّرْتَنَا وَعَظَّمْتَنَا، وليسَ لَنا إِلَّا رِقَابُنَا وَنَحْنُ بَيْنُ يَدَيْكَ، وَاللَّهِ مَا يَرْجِعُ أَحَدٌ مِنَّا عن نصرك حتى يَمُوتَ.

فَقَالَ الْجَمَاعَةُ مِثْلَ مَا قَالَ، فَفَرِحَ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ وَطَابَ قَلْبُهُ، وَمَدَّ لَهُمْ سِمَاطًا حَافِلًا، وَانْصَرَفُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ عَلَى ذَلِكَ.

ثم بلغه بعد ذلك أن بعض الأمراء قَالَ: إِنَّا نَخَافُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْنَا فِي هذا البلد مثل ما جَرَى عَلَى أَهْلِ عَكَّا، ثُمَّ يَأْخُذُونَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بَلَدًا بَلَدًا، وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ نَلْتَقِيَهُمْ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، فَإِنْ هَزَمْنَاهُمْ أَخَذْنَا بَقِيَّةَ بِلَادِهِمْ، وَإِنْ تكن الأخرى سلم العسكر ومضى بحاله، ويأخذون القدس ونحفظ بقية بِلَادُ الْإِسْلَامِ بِدُونِ الْقُدْسِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَبَعَثُوا إلى السلطان يقولون


(١) قال رنسيمان في الحروب الصليبية أن ذلك وقع على القافلة - القادمة من الجنوب تتخذ طريقها نحو بيت المقدس -
عند آبار الخويلفة، الواقعة في إقليم جدب على مسافة عشرين ميلا إلى الجنوب الغربي من حبرون.
(٢) في ابن خلدون ٥ / ٣٢٧: السمين.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>