للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاسْتَمَعُوا.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى " فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) أَيْ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى مَنْ نَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الصَّنِيعِ الشَّنِيعِ الْفَظِيعِ (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) وَهُمُ الْفِرْقَةُ الْآمِرَةُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَةُ عَنِ الْمُنْكَرِ (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم المرتكبون الفاحشة (بِعَذَابٍ بَئِيسٍ) وَهُوَ الشَّدِيدُ الْمُؤْلِمُ الْمُوجِعُ (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) .

ثم فسر العذاب الذي أصابهم فبقوله: (فلما عتوا عما نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) .

وسنذكر ما ورد من الآيات فِي ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَهْلَكَ الظَّالِمِينَ وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْكِرِينَ وَسَكَتَ عَنِ السَّاكِتِينَ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِمُ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقِيلَ إِنَّهُمْ مِنَ النَّاجِينَ وَقِيلَ إِنَّهُمْ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ إِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ وذلك عن مُنَاظَرَةِ مَوْلَاهُ عِكْرِمَةُ فَكَسَاهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حُلَّةً سَنِيَّةً تَكْرِمَةً.

قُلْتُ وَإِنِمَّا لَمْ يُذْكَرُوا مَعَ النَّاجِينَ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَرِهُوا بِبَوَاطِنِهِمْ تِلْكَ الْفَاحِشَةَ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا ظَوَاهِرَهُمْ بِالْعَمَلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنَ الْإِنْكَارِ الْقَوْلِيِّ الَّذِي هُوَ أَوْسَطُ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ: الَّتِي أَعْلَاهَا الْإِنْكَارُ بِالْيَدِ ذَاتِ الْبَنَانِ، وَبَعْدَهَا الْإِنْكَارُ الْقَوْلِيِّ بِاللِّسَانِ، وَثَالِثُهَا الْإِنْكَارُ بِالْجَنَانِ.

فَلَمَّا لَمْ يذكروا نجوا مَعَ النَّاجِينَ إِذْ لَمْ يَفْعَلُوا الْفَاحِشَةَ بَلْ

أنكروها.

وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَكَى مَالِكٌ: عَنِ ابْنِ رُومَانَ، وَشَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ مَا مَضْمُونُهُ: أَنَّ الَّذِينَ ارْتَكَبُوا هَذَا الصُّنْعَ اعْتَزَلَهُمْ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْبَلَدِ وَنَهَاهُمْ مَنْ نَهَاهُمْ مِنْهُمْ، فَلَمْ يَقْبَلُوا فَكَانُوا يَبِيتُونَ وَحْدَهُمْ، وَيُغْلِقُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ أَبْوَابًا حَاجِزًا لِمَا كَانُوا يَتَرَقَّبُونَ مِنْ هَلَاكِهِمْ فَأَصْبَحُوا ذَاتَ يَوْمٍ وَأَبْوَابُ نَاحِيَتِهِمْ مُغْلَقَةٌ لَمْ يَفْتَحُوهَا وَارْتَفَعَ النَّهَارُ وَاشْتَدَّ الضُحَاءُ فَأَمَرَ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْبَلَدِ رَجُلًا أَنْ يَصْعَدَ عَلَى سَلَالِمَ، وَيُشْرِفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ إِذَا هُمْ قِرَدَةٌ لَهَا أَذْنَابٌ يَتَعَاوَوْنَ وَيَتَعَادَوْنَ فَفَتَحُوا عَلَيْهِمُ الأبواب فجعلت القردة تعرف قراباتهم ولا يعرفهم قراباتهم، فجعلوا يلوذون بهم ويقولون لَهُمُ النَّاهُونَ: أَلَمْ نَنْهَكُمْ عَنْ صَنِيعِكُمْ فَتُشِيرُ القردة برؤوسها أَنْ نَعَمْ.

ثُمَّ بَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَقَالَ: إِنَّا لَنَرَى مُنْكَرَاتٍ كَثِيرَةً.

وَلَا نُنْكِرُهَا وَلَا نَقُولُ فِيهَا شَيْئًا.

وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: صَارَ شَبَابُ الْقَرْيَةِ قِرَدَةً وَشُيُوخُهَا خَنَازِيرَ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ لَمْ يَعِيشُوا إِلَّا فُوَاقًا ثُمَّ هَلَكُوا مَا كَانَ لَهُمْ نَسْلٌ وَقَالَ الضحَّاك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُ لَمْ يَعِشْ مَسْخٌ قَطُّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَأْكُلْ هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَشْرَبُوا وَلَمْ يَنْسِلُوا، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْآثَارَ فِي ذَلِكَ فِي تفسير سورة البقرة والأعراف.

وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُمْسَخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضربه الله (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أسفارا) [الجمعة: ٥] وَهَذَا صَحِيحٌ إِلَيْهِ وَغَرِيبٌ مِنْهُ جِدًّا وَمُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَلِمَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ من السَّلف والخلف والله أعلم.

قصة أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ (إِذْ جاءها الْمُرْسَلُونَ) تقدم ذكرها قبل قصَّة موسى عليه السلام.

<<  <  ج: ص:  >  >>