للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذِهِ السَّنَةِ، وَخَرَجَ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ لِتَوْدِيعِهِ، وَقَدْ كَانَ أَخْبَرَنَا عِنْدَ تَوْدِيعِهِ بِأَنَّ أَخَاهُ قَاضِي القضاة تاج الدين قد لبس خلعة القضاة بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الشَّامِ عِنْدَ وصوله إلى ديار مِصْرَ، وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ أَخَاهُ كَارِهٌ لِلشَّامِ.

وَأَنْشَدَنِي الْقَاضِي صَلَاحُ الدِّينِ الصَّفَدِيُّ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ رابع عشره لنفسه فيما عكس عن الْمُتَنَبِّي فِي يَدَيْهِ مِنْ قَصِيدَتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذَا اعْتَادَ الْفَتَى خوضَ الْمَنَايَا * فأيسرُ مَا يمر به الوصولُ وَقَالَ: دُخُولُ دِمَشْقَ يُكْسِبُنَا نُحُولًا * كَأَنَّ لَهَا دُخُولًا فِي الْبَرَايَا

إِذَا اعْتَادَ الْغَرِيبُ الْخَوْضَ فِيهَا * فَأَيْسَرُ مَا يَمُرُّ بِهِ الْمَنَايَا وَهَذَا شِعْرٌ قَوِيٌّ، وَعَكْسٌ جَلِيٌّ، لَفْظًا وَمَعْنَى.

وَفِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ عُمِلَتْ خيمة حافلة بالمارستان الدَّقَّاقِيِّ جِوَارَ الْجَامِعِ، بِسَبَبِ تَكَامُلِ تَجْدِيدِهِ قَرِيبَ السَّقْفِ مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، حَتَّى قَنَاطِرِهِ الْأَرْبَعِ بِالْحِجَارَةِ الْبُلْقِ، وَجُعِلَ فِي أَعَالِيهِ قَمَرِيَّاتٌ كِبَارٌ مُضِيئَةٌ، وَفَتَقَ فِي قِبْلَتِهِ إِيوَانًا حَسَنًا زَادَ فِي أَعْمَاقِهِ أَضْعَافَ مَا كَانَ، وَبَيَّضَهُ جَمِيعَهُ بِالْجِصِّ الْحَسَنِ الْمَلِيحِ، وَجُدِّدَتْ فِيهِ خَزَائِنُ وَمَصَالِحُ، وَفُرُشٌ وَلُحُفٌ جُدُدٌ، وَأَشْيَاءُ حَسَنَةٌ، فَأَثَابَهُ اللَّهُ وَأَحْسَنَ جَزَاءَهُ آمِينَ، وَحَضَرَ الْخَيْمَةَ جَمَاعَاتٌ مِنَ النَّاس من الخواص وَالْعَوَّامِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الْأُخْرَى دَخَلَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَأَعْجَبَهُ مَا شَاهَدَهُ مِنَ الْعِمَارَاتِ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالُهُ قَبْلَ هَذِهِ الْعِمَارَةِ، فَاسْتَجَادَ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ النَّاظِرِ.

وَفِي أَوَّلِ رَبِيعٍ الْآخِرِ قَدِمَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى قَضَاءِ الشَّامِ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ رَابِعَ عَشَرَهُ فَبَدَأَ بِالسَّلَامِ عَلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ بِدَارِ السَّعَادَةِ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى دَارِ الْأَمِيرِ عَلِيٍّ بِالْقَصَّاعِينَ فسلَّم عَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى العادلية قبل الزوال، ثم جاءه الناس من الخاص والعام يسلمون عليه ويهنونه بِالْعَوْدِ، وَهُوَ يَتَوَدَّدُ وَيَتَرَحَّبُ بِهِمْ.

ثُمَّ لَمَّا كَانَ صُبْحُ يَوْمِ الْخَمِيسِ سَادِسَ عَشَرَهُ لَبِسَ الْخِلْعَةَ بِدَارِ السَّعَادَةِ ثُمَّ جَاءَ فِي أُبَّهَةٍ هَائِلَةٍ لَابِسَهَا إِلَى الْعَادِلِيَّةِ فَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِهَا بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ وَهَنَّأَهُ النَّاسُ وَالشُّعَرَاءُ وَالْمُدَّاحُ.

وَأَخْبَرَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ بِمَوْتِ حُسَيْنٍ بن الْمَلِكِ النَّاصِرِ (١) ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ بَنِيهِ لِصُلْبِهِ سِوَاهُ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَكِبَارِ الدَّوْلَةِ، لِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ حِدَّةٍ وارتكاب أمور نكرة.

وأخبر بموت القاضي فخر الدين سليمان بن القاضي عماد الدين بن الشيرجي، وقد كان اتفق له من الأمر


(١) وكان ذلك ليلة السبت رابع ربيع الآخرة كما في الجوهر الثمين لابن دقماق ٢ / ٢١٩ (وراجع النجوم الزاهرة ١١ / ٢١ وبدائع الزهور ١ / ٥٩٢ وفيه: في جمادى الأولى) .

<<  <  ج: ص:  >  >>