للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْوَحْيِ لَا مُطْلَقًا (١) ، ذَاكَ قَوْلُهُ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ) وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ أَوَّلَ مَا نزل (يَا أيُّها المدَّثر) وَاللَّائِقُ حَمْلُ كَلَامِهِ مَا أَمْكَنَ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فَإِنَّ فِي سِيَاقِ كَلَامِهِ مَا يدل على تقدم مجئ الْمَلَكِ الَّذِي عَرَفَهُ ثَانِيًا بِمَا عَرَفَهُ بِهِ أَوَّلًا إِلَيْهِ.

ثُمَّ قَوْلُهُ: يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ الْوَحْيِ عَلَى هَذَا الْإِيحَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا المدثر) فقلت (واقرأ باسم ربك) فَقَالَ سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ فَقَالَ (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) فقلت (واقرأ باسم ربك) فقال [أحدثكم ما حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ الْوَادِيَ فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ بَيْنَ يَدَيَّ وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى السَّماء فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ فَأَخَذَتْنِي رِعْدَةٌ - أَوْ قَالَ وَحْشَةٌ - فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَأَمَرْتُهُمْ فَدَثَّرُونِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) حتى بلغ (وثيابك فطهر) (٢) - وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ - فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فجثيت مِنْهُ " وَهَذَا صَرِيحٌ فِي تَقَدُّمِ إِتْيَانِهِ إِلَيْهِ وَإِنْزَالِهِ الْوَحْيَ منَّ اللَّهِ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ والله أعلم.

ومنهم زَعَمَ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ بَعْدَ

فَتْرَةِ الْوَحْيِ سُورَةُ: (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا ودعك ربك وما قلى) إِلَى آخِرِهَا.

قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ.

وَقَالَ بَعْضُ القرَّاء: وَلِهَذَا كَّبر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِهَا فَرَحًا وَهُوَ قَوْلٌ بَعِيدٌ يَرُدُّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ صَاحِبَيِ الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ أَوَّلَ الْقُرْآنِ نُزُولًا بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ: (يَا أيُّها المدَّثر قُمْ فانذر) وَلَكِنْ نَزَلَتْ سُورَةُ وَالضُّحَى بَعْدَ فَتْرَةٍ أُخْرَى كَانَتْ لَيَالِيَ يَسِيرَةً كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحيحين (٣) وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا تَرَكَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ ربك وما قَلَى) وَبِهَذَا الْأَمْرِ حَصَلَ الْإِرْسَالُ إِلَى النَّاسِ وَبِالْأَوَّلِ حَصَلَتِ النُّبُوَّةُ.

وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ كَانَتْ مُدَّةُ الفترة قريباً من سنتين أو سنتين ونصفاً، وَالظَّاهِرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا الْمُدَّةُ الَّتِي اقْتَرَنَ مَعَهُ مِيكَائِيلُ كَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَا يَنْفِي هَذَا تَقَدُّمَ إِيحَاءِ جِبْرِيلَ إِلَيْهِ أَوَّلًا: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذي خلق) ثُمَّ اقْتَرَنَ بِهِ جِبْرِيلُ بَعْدَ نُزُولِ: (يَا أيُّها المدَّثر قم فأنذر


(١) أي إن أول ما نزل مطلقا هو اقرأ.
(٢) أخرجه مسلم في صحيحه ١ كتاب الايمان حديث ٢٥٧ / ١ / ١٤٤.
وفيه: أخذتني رجفة شديدة: قال القاضي: ورواه، السمرقندي وجفة، والمعنى الاضطراب.
وأخرجه البخاري في ٦٥ كتاب التفسير (٧٤) باب حديث ٤٩٢٢ وأعاده في تفسير سورة العلق عن سعيد بن مروان في قصة فتور الوحي.
وفي كتاب بدء الخلق.
ورواه الطبري في تاريخه ٢ / ٢٠ ٨ دار القاموس الحديث.
(٣) أخرجه البخاري في أبواب التهجد الحديث ١١٢٥ فتح الباري ٣ / ٨ وفي ٦٥ كتاب التفسير الحديث ٤٩٥٠ فتح الباري ٨ / ٧١٠ وأخرجه مسلم في الصحيح ١ / ١٤٣.
(*)

<<  <  ج: ص:  >  >>