للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ اللَّبَنُ بِحَالٍ؛ لِقَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ حَبَّةٍ أَوْ ثَمَرَةٍ تُقْتَاتُ. وَقَدْ حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى حَالَةِ الْعَدَمِ. وَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرُوهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَكْمَلَ مِنْ الْأَقِطِ، لَجَازَ إخْرَاجُهُ مَعَ وُجُودِهِ، وَلِأَنَّ الْأَقِطَ أَكْمَلُ مِنْ اللَّبَنِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ بَلَغَ حَالَةَ الِادِّخَارِ وَهُوَ جَامِدٌ، بِخِلَافِ اللَّبَنِ، لَكِنْ يَكُونُ حُكْمُ اللَّبَنِ حُكْمَ اللَّحْمِ، يُجْزِئُ إخْرَاجُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْأَصْنَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا عَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ، وَمَنْ وَافَقَهُ. وَكَذَلِكَ الْجُبْنُ وَمَا أَشْبَهَهُ

[مَسْأَلَةُ إخْرَاجُ التَّمْرِ فِي صَدَقَة الْفِطْر]

مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَاخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ إخْرَاجُ التَّمْرِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ إخْرَاجَ الْعَجْوَةِ مِنْهُ. وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ إخْرَاجَ الْبُرِّ.

وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبُرَّ كَانَ أَغْلَى فِي وَقْتِهِ وَمَكَانِهِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُخْرِجَ أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسَهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ، فَقَالَ: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا» وَإِنَّمَا اخْتَارَ أَحْمَدُ إخْرَاجَ التَّمْر اقْتِدَاءً بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتِّبَاعًا لَهُ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، قَالَ: قُلْت لِابْنِ عُمَرَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْسَعَ، وَالْبُرُّ أَفْضَلُ مِنْ التَّمْرِ» قَالَ: إنَّ أَصْحَابِي سَلَكُوا طَرِيقًا، وَأَنَا أُحِبُّ أَنَّ أَسْلُكَهُ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ جَمَاعَةَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُخْرِجُونَ التَّمْرَ فَأَحَبَّ ابْنُ عُمَرَ مُوَافَقَتَهُمْ، وَسُلُوكَ طَرِيقَتِهِمْ، وَأَحَبَّ أَحْمَدُ، أَيْضًا الِاقْتِدَاءَ بِهِمْ وَاتِّبَاعَهُمْ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةَ الْفِطْرِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ صَاعًا مِنْ بُرٍّ.» فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُخْرِجُ التَّمْرَ، فَأَعْوَزَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ التَّمْرِ، فَأَعْطَى شَعِيرًا. وَلِأَنَّ التَّمْرَ فِيهِ قُوَّةٌ وَحَلَاوَةٌ وَهُوَ أَقْرَبُ تَنَاوُلًا وَأَقَلُّ كُلْفَةً، فَكَانَ أَوْلَى (١٩٦٠) فَصْلٌ: وَالْأَفْضَلُ بَعْدَ التَّمْرِ الْبُرُّ.

وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْأَفْضَلُ بَعْدَهُ الزَّبِيبُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ تَنَاوُلًا وَأَقَلُّ كُلْفَةً فَأَشْبَهَ التَّمْرَ. وَلَنَا، أَنَّ الْبُرَّ أَنْفَعُ فِي الِاقْتِيَاتِ، وَأَبْلَغُ فِي دَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ لِابْنِ عُمَرَ: الْبُرُّ أَفْضَلُ مِنْ التَّمْرِ. يَعْنِي أَنْفَعُ وَأَكْثَرُ قِيمَةً. وَلَمْ يُنْكِرْهُ ابْنُ عُمَرَ وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ اتِّبَاعًا لِأَصْحَابِهِ، وَسُلُوكًا لِطَرِيقَتِهِمْ. وَلِهَذَا عَدَلَ نِصْفَ صَاعٍ مِنْهُ بِصَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ.

وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إنِّي لَأَرَى مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ يَعْدِلُ صَاعًا مِنْ التَّمْرِ. فَأَخَذَ النَّاسُ بِهِ، وَتَفْضِيلُ التَّمْرِ إنَّمَا كَانَ لِاتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>