للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَيْتِهَا، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي جَعَلَتْهُ لِلصَّلَاةِ مِنْهُ، وَاعْتِكَافُهَا فِيهِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهَا فِيهِ أَفْضَلُ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهَا لَا يَصِحُّ اعْتِكَافُهَا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ، لَمَّا رَأَى أَبْنِيَةَ أَزْوَاجِهِ فِيهِ، وَقَالَ: الْبِرَّ تُرِدْنَ» . وَلِأَنَّ مَسْجِدَ بَيْتِهَا مَوْضِعُ فَضِيلَةِ صَلَاتِهَا، فَكَانَ مَوْضِعَ اعْتِكَافِهَا، كَالْمَسْجِدِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ.

وَلَنَا، قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: ١٨٧] . وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ فِيهَا، وَمَوْضِعُ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا لَيْسَ بِمَسْجِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبْنَ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، وَإِنْ سُمِّيَ مَسْجِدًا كَانَ مَجَازًا، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْمَسَاجِدِ الْحَقِيقِيَّةِ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا» .

وَلِأَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَأْذَنَّهُ فِي الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَذِنَ لَهُنَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِاعْتِكَافِهِنَّ، لَمَا أَذِنَ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ الِاعْتِكَافُ فِي غَيْرِهِ أَفْضَلَ لَدَلَّهُنَّ عَلَيْهِ، وَنَبَّهَهُنَّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ قُرْبَةٌ يُشْتَرَطُ لَهَا الْمَسْجِدُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ، فَيُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، كَالطَّوَافِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ حُجَّةٌ لَنَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا كَرِهَ اعْتِكَافَهُنَّ فِي تِلْكَ الْحَالِ، حَيْثُ كَثُرَتْ أَبْنِيَتُهُنَّ، لِمَا رَأَى مِنْ مُنَافَسَتِهِنَّ، فَكَرِهَهُ مِنْهُنَّ، خَشْيَةً عَلَيْهِنَّ مِنْ فَسَادِ نِيَّتِهِنَّ، وَسُوءِ الْمَقْصِدِ بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: (الْبِرَّ تُرِدْنَ،) . مُنْكِرًا لِذَلِكَ، أَيْ لَمْ تَفْعَلْنَ ذَلِكَ تَبَرُّرًا، وَلِذَلِكَ تَرَكَ الِاعْتِكَافَ، لِظَنِّهِ أَنَّهُنَّ يَتَنَافَسْنَ فِي الْكَوْنِ مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ، لَأَمَرَهُنَّ بِالِاعْتِكَافِ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُنَّ فِي الْمَسْجِدِ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الِاعْتِكَافِ بِهَا، فَإِنَّ صَلَاةَ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ، وَلَا يَصِحُّ اعْتِكَافُهُ فِيهِ. (٢١٥٤)

فَصْلٌ: وَمَنْ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ الرِّجَالِ، كَالْمَرِيضِ إذَا أَحَبَّ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ، يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ سَاقِطَةٌ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ الْمَرْأَةَ. وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَجُوزَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ، فَأَشْبَهَ مَنْ تَجِبْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ إذَا الْتَزَمَ الِاعْتِكَافَ، وَكَلَّفَهُ نَفْسَهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَهُ فِي مَكَان تُصَلَّى فِيهِ الْجَمَاعَةُ. وَلِأَنَّ مَنْ الْتَزَمَ مَا لَا يَلْزَمُهُ، لَا يَصِحُّ بِدُونِ شُرُوطِهِ، كَالْمُتَطَوِّعِ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. (٢١٥٥)

فَصْلٌ: وَإِذَا اعْتَكَفَتْ الْمَرْأَةُ فِي الْمَسْجِدِ، اُسْتُحِبَّ لَهَا أَنْ تَسْتَتِرَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرَدْنَ الِاعْتِكَافَ أَمَرْنَ بِأَبْنِيَتِهِنَّ فَضُرِبْنَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ يَحْضُرُهُ الرِّجَالُ، وَخَيْرٌ لَهُمْ وَلِلنِّسَاءِ أَنْ لَا يَرُونَهُنَّ وَلَا يَرَيْنَهُمْ. وَإِذَا ضَرَبَتْ بِنَاءً جَعَلَتْهُ فِي مَكَان لَا يُصَلِّي فِيهِ الرِّجَالُ، لِئَلَّا تَقْطَعَ صُفُوفَهُمْ، وَيُضَيَّقَ عَلَيْهِمْ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَتِرَ الرَّجُلُ أَيْضًا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِبِنَائِهِ فَضُرِبَ، وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهُ، وَأَخْفَى لِعَمَلِهِ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

<<  <  ج: ص:  >  >>