للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي الْجَامِعِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلِاعْتِكَافِ، وَالْمَكَانُ لَا يَتَعَيَّنُ لِلِاعْتِكَافِ بِنَذْرِهِ وَتَعْيِينِهِ، فَمَعَ عَدَمِ ذَلِكَ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ إنْ دَخَلَ فِي طَرِيقِهِ مَسْجِدًا، فَأَتَمَّ اعْتِكَافَهُ فِيهِ، جَازَ لِذَلِكَ.

وَإِنْ أَحَبَّ الرُّجُوعَ إلَى مُعْتَكَفِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ، كَمَا لَوْ خَرَجَ إلَى غَيْرِ جُمُعَةٍ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِسْرَاعُ إلَى مُعْتَكَفِهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَحْمَدَ يَرْكَعُ - أَعْنِي الْمُعْتَكِفَ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، بِقَدْرِ مَا كَانَ يَرْكَعُ.

وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخِيرَةُ إلَيْهِ فِي تَعْجِيل الرُّكُوعِ وَتَأْخِيرِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَكَان يَصْلُحُ لِلِاعْتِكَافِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى الِاعْتِكَافَ فِيهِ. فَأَمَّا إنَّ خَرَجَ ابْتِدَاءً إلَى مَسْجِدٍ آخَر، أَوْ إلَى الْجَامِعِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، أَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ أَبْعَدَ مِنْ مَوْضِعِ حَاجَتِهِ فَمَضَى إلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، أَشْبَهَ مَا لَوْ خَرَجَ إلَى غَيْرِ الْمَسْجِدِ. فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدَانِ مُتَلَاصِقَيْنِ، يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَيَصِيرُ فِي الْآخَرِ، فَلَهُ الِانْتِقَالُ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُمَا كَمَسْجِدٍ وَاحِدٍ، يَنْتَقِلُ مِنْ إحْدَى زَاوِيَتَيْهِ إلَى الْأُخْرَى. وَإِنْ كَانَ يَمْشِي بَيْنَهُمَا فِي غَيْرِهِمَا، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْخُرُوجُ وَإِنْ قَرُبَ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ مِنْ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَاجِبَةٍ. (٢١٥٧)

فَصْلٌ: وَإِذَا خَرَجَ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْجِلَ فِي مَشْيِهِ، بَلْ يَمْشِي عَلَى عَادَتِهِ، لِأَنَّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً فِي إلْزَامِهِ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ الْإِقَامَةُ بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ لِأَكْلٍ وَلَا لِغَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ الْيَسِيرَ فِي بَيْتِهِ، كَاللُّقْمَةِ وَاللُّقْمَتَيْنِ، فَأَمَّا جَمِيعُ أَكْلِهِ فَلَا. وَقَالَ الْقَاضِي: يَتَوَجَّهُ أَنَّ لَهُ الْأَكْلَ فِي بَيْتِهِ، وَالْخُرُوجَ إلَيْهِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ فِي الْمَسْجِدِ دَنَاءَةٌ وَتَرْكٌ لِلْمُرُوءَةِ، وَقَدْ يُخْفِي جِنْسَ قُوتِهِ عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرُهُ فَيَسْتَحِي أَنْ يَأْكُلَ دُونَهُ، وَإِنْ أَطْعَمَهُ مَعَهُ لَمْ يَكْفِهِمَا.

وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ الْحَدَثِ، وَلِأَنَّهُ خُرُوجٌ لِمَا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، أَوْ لُبْثٌ فِي غَيْرِ مُعْتَكَفِهِ لِمَا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ، فَأَبْطَلَ الِاعْتِكَافَ، كَمُحَادَثَةِ أَهْلِهِ، وَمَا ذَكَرِهِ الْقَاضِي لَيْسَ بِعُذْرٍ يُبِيحُ الْإِقَامَةَ وَلَا الْخُرُوجَ، وَلَوْ سَاغَ ذَلِكَ لَسَاغَ الْخُرُوجُ لِلنَّوْمِ وَأَشْبَاهِهِ. (٢١٥٨)

فَصْلٌ: وَإِنْ خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَبِقُرْبِ الْمَسْجِدِ سِقَايَةٌ أَقْرَبُ مِنْ مَنْزِلِهِ لَا يَحْتَشِمُ مِنْ دُخُولِهَا، وَيُمْكِنُهُ التَّنَظُّفُ فِيهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُضِيُّ إلَى مَنْزِلِهِ، لِأَنَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ بُدٌّ. وَإِنْ كَانَ يَحْتَشِمُ مِنْ دُخُولِهَا، أَوْ فِيهِ نَقِيصَةٌ عَلَيْهِ، أَوْ مُخَالَفَةٌ لِعَادَتِهِ، أَوْ لَا يُمْكِنُهُ التَّنَظُّفُ فِيهَا، فَلَهُ أَنْ يَمْضِيَ إلَى مَنْزِلِهِ؛ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي تَرْكِ الْمُرُوءَةِ. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُ مَنْزِلَانِ أَحَدُهُمَا أَقْرَبُ مِنْ الْآخَرِ، يُمْكِنُهُ الْوُضُوءُ فِي الْأَقْرَبِ بِلَا ضَرَرٍ، فَلَيْسَ لَهُ الْمُضِيُّ إلَى الْأَبْعَدِ.

وَإِنْ بَذَلَ لَهُ صَدِيقُهُ أَوْ غَيْرُهُ الْوُضُوءَ فِي مَنْزِلِهِ الْقَرِيبِ، لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ بِتَرْكِ الْمُرُوءَةِ وَالِاحْتِشَامِ مِنْ صَاحِبِهِ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ الْكَبِيرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>