للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الضَّرْبُ الثَّانِي، أَنْ يُعَيِّنَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ، فَيَقُولَ: هَذَا الْوَاجِبُ عَلَيَّ.

فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَبْرَأَ الذِّمَّةُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْجَبَ هَدْيًا وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ لَتَعَيَّنَ، فَإِذَا كَانَ وَاجِبًا فَعَيَّنَهُ فَكَذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَطِبَ، أَوْ سُرِقَ، أَوْ ضَلَّ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، لَمْ يُجْزِهِ، وَعَادَ الْوُجُوبُ إلَى ذِمَّتِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَاشْتَرَى بِهِ مِنْهُ مَكِيلًا، فَتَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ، وَعَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّتِهِ، وَلِأَنَّ ذِمَّتَهُ لَمْ تَبْرَأْ مِنْ الْوَاجِبِ بِتَعْيِينِهِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْوُجُوبُ بِمَحَلٍّ آخَرَ، فَصَارَ كَالدِّينِ يَضْمَنُهُ ضَامِنٌ، أَوْ يَرْهَنُ بِهِ رَهْنًا، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ الْحَقُّ بِالضَّامِنِ وَالرَّهْنِ مَعَ بَقَائِهِ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ، فَمَتَى تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الضَّامِنِ، أَوْ تَلِفَ الرَّهْنُ، بَقِيَ الْحَقُّ فِي الذِّمَّةِ بِحَالِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا.

وَإِنْ ذَبَحَهُ، فَسُرِقَ، أَوْ عَطِبَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. قَالَ أَحْمَدُ: إذَا نَحَرَ فَلَمْ يُطْعِمْهُ حَتَّى سُرِقَ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إذَا نَحَرَ فَقَدْ فَرَغَ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُ مَالِكٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوصِلْ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَذْبَحْهُ.

وَلَنَا، أَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، فَبَرِئَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ فَرَّقَهُ. وَدَلِيلُ أَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ، أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا التَّفْرِقَةُ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ أَجْزَأَهُ، وَلِذَلِكَ «لَمَّا نَحَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَدَنَاتِ، قَالَ: مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ» . وَإِذَا عَطِبَ هَذَا الْمُعَيَّنُ، أَوْ تَعَيَّبَ عَيْبًا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ، لَمْ يُجْزِهِ ذَبْحُهُ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ هَدْيًا سَلِيمًا وَلَمْ يُوجَدْ، وَعَلَيْهِ مَكَانَهُ، وَيَرْجِعُ هَذَا الْهَدْيُ إلَى مِلْكِهِ، فَيَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ، مِنْ أَكْلٍ، أَوْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ، وَصَدَقَةٍ، وَغَيْرِهِ.

هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَنَحْوِهِ عَنْ عَطَاءٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَأْكُلُ، وَيُطْعِمُ مَنْ أَحَبَّ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَلَا يَبِيعُ مِنْهُ شَيْئًا.

وَلَنَا، مَا رَوَى سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ، قَالَ: إذَا أَهْدَيْت هَدْيًا تَطَوُّعًا، فَعَطِبَ، فَانْحَرْهُ، ثُمَّ اغْمِسْ النَّعْلَ فِي دَمِهِ، ثُمَّ اضْرِبْ بِهَا صَفْحَتَهُ، فَإِنْ أَكَلْت أَوْ أَمَرْت بِهِ عَرَّفْت، وَإِذَا أَهْدَيْت هَدْيًا وَاجِبًا فَعَطِبَ فَانْحَرْهُ، ثُمَّ كُلْهُ إنْ شِئْت، وَأَهْدِهِ إنْ شِئْت، وَبِعْهُ إنْ شِئْت، وَتَقَوَّ بِهِ فِي هَدْيٍ آخَرَ. وَلِأَنَّهُ مَتَى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيُطْعِمَ الْأَغْنِيَاءَ، فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ.

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَذْبَحُ الْمَعِيبَ وَمَا فِي ذِمَّتِهِ جَمِيعًا، وَلَا يَرْجِعُ الْمُعَيَّنَ إلَى مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِحَقِّ الْفُقَرَاءِ بِتَعْيِينِهِ، فَلَزِمَ ذَبْحُهُ، كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ بِنَذْرِهِ ابْتِدَاءً.

[فَصْلٌ ضَلَّ الْهَدْيُ الْمُعَيَّنُ فَذَبَحَ غَيْرَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ]

فَصْلٌ: وَإِنْ ضَلَّ الْمُعَيَّنُ، فَذَبَحَ غَيْرَهُ، ثُمَّ وَجَدَهُ، أَوْ عَيَّنَ غَيْرَ الضَّالِّ بَدَلًا عَمَّا فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ وَجَدَ الضَّالَّ، ذَبَحَهُمَا مَعًا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ وَابْنِ عَبَّاسِ، وَفَعَلَتْهُ عَائِشَةُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَيَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِنَا فِيمَا إذَا تَعَيَّبَ الْهَدْيُ، فَأَبْدَلَهُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِهِ مَا شَاءَ. أَوْ يَرْجِعَ إلَى مِلْكِ

<<  <  ج: ص:  >  >>