للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالرَّصَاصِ، وَمَا لَا يَفْسُدُ، وَلَا يَخْتَلِفُ قَدِيمُهُ وَحَدِيثُهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَبْضُهُ قَبْلَ مَحَلِّهِ) يَعْنِي بِالسَّلَمِ: الْمُسْلَمَ فِيهِ، بِاسْمِ الْمَصْدَرِ، كَمَا يُسَمَّى الْمَسْرُوقُ سَرِقَةً وَالْمَرْهُونُ رَهْنًا. قَالَ إبْرَاهِيمُ: خُذْ سَلَمَك أَوْ دُونَ سَلَمَك، وَلَا تَأْخُذْ فَوْقَ سَلَمَك. وَمَتَى أَحْضَرَ الْمُسْلَمَ فِيهِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يُحْضِرَهُ فِي مَحِلِّهِ، فَيَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَاهُ بِحَقِّهِ فِي مَحَلِّهِ، فَلَزِمَهُ قَبُولُهُ، كَالْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ فِي قَبْضِهِ ضَرَرٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ.

فَإِنْ أَبَى، قِيلَ لَهُ: إمَّا أَنْ تَقْبِضَ حَقَّك، وَإِمَّا أَنْ تُبْرِئَ مِنْهُ. فَإِنْ امْتَنَعَ قَبَضَهُ الْحَاكِمُ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِلْمُسْلِمِ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُمْتَنِعِ بِوِلَايَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْرِئَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ.

الْحَالُ الثَّانِي، أَنْ يَأْتِيَ بِهِ قَبْلَ مَحِلِّهِ، فَيُنْظَرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا فِي قَبْضِهِ قَبْلَ مَحِلِّهِ ضَرَرٌ، إمَّا لِكَوْنِهِ مِمَّا يَتَغَيَّرُ، كَالْفَاكِهَةِ وَالْأَطْعِمَةِ كُلِّهَا، أَوْ كَانَ قَدِيمُهُ دُونَ حَدِيثِهِ، كَالْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا، لَمْ يَلْزَمْ الْمُسْلِمَ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي تَأْخِيرِهِ، بِأَنْ يَحْتَاجَ إلَى أَكْلِهِ أَوْ إطْعَامِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ تَلَفَهُ، وَيَحْتَاجُ إلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ مَا قَبْلَهُ.

وَهَكَذَا إنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إلَى مُؤْنَةٍ، كَالْقُطْنِ وَنَحْوِهِ، أَوْ كَانَ الْوَقْتُ مَخُوفًا يَخْشَى نَهْبَ مَا يَقْبِضُهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْأَخْذُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي قَبْضِهِ، وَلَمْ يَأْتِ مَحِلُّ اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ، فَجَرَى مَجْرَى نَقْصِ صِفَةٍ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِي قَبْضِهِ، بِأَنْ يَكُونَ لَا يَتَغَيَّرُ، كَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي قَدِيمُهُ وَحَدِيثُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ الزَّيْتُ وَالْعَسَلُ، وَلَا فِي قَبْضِهِ ضَرَرُ الْخَوْفِ، وَلَا تَحَمُّلُ مُؤْنَةٍ، فَعَلَيْهِ قَبْضُهُ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ حَاصِلٌ مَعَ زِيَادَةِ تَعْجِيلِ الْمَنْفَعَةِ، فَجَرَى مَجْرَى زِيَادَةِ الصِّفَةِ وَتَعْجِيلِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ. الْحَالُ الثَّالِثُ، أَنْ يُحْضِرَهُ بَعْدَ مَحَلِّ الْوُجُوبِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ أَحْضَرَ الْمَبِيعَ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمَا.

[فَصْلٌ أَحْضُرَ الْمُسْلِم فِيهِ عَلَى صِفَتِهِ]

(٣٢٤٣) فَصْلٌ: وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُحْضِرَ الْمُسْلَمَ فِيهِ عَلَى صِفَتِهِ، أَوْ دُونَهَا، أَوْ أَجْوَدَ مِنْهَا. فَإِنْ أَحْضَرَهُ عَلَى صِفَتِهِ، لَزِمَ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ. وَإِنْ أَتَى بِهِ دُونَ صِفَتِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إسْقَاطَ حَقِّهِ، فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ مِنْ جِنْسِهِ، جَازَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ دُونَ حَقِّهِ، وَيَزِيدَهُ شَيْئًا، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ أَفْرَدَ صِفَةَ الْجَوْدَةِ بِالْبَيْعِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ بَيْعَ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ غَيْرُ جَائِزٍ، فَبَيْعُ وَصْفِهِ أَوْلَى.

الثَّالِثُ، أَنْ يُحْضِرَهُ أَجْوَدَ مِنْ الْمَوْصُوفِ، فَيُنْظَرُ فِيهِ؛ فَإِنْ أَتَاهُ بِهِ مِنْ نَوْعِهِ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ وَزِيَادَةً تَابِعَةً لَهُ، فَيَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ، إذْ لَا يَفُوتُهُ غَرَضٌ. فَإِنْ أَتَاهُ بِهِ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَ مَا وَصَفَاهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي شَرَطَاهَا، وَقَدْ فَاتَ بَعْضُ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ النَّوْعَ صِفَةٌ، وَقَدْ فَاتَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَاتَ غَيْرُهُ مِنْ الصِّفَات. وَقَالَ الْقَاضِي: يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ، فَأَشْبَهَ الزِّيَادَةَ فِي الصِّفَةِ مَعَ اتِّفَاقِ النَّوْعِ.

وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَصْلُحُ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الْآخَرُ، فَإِذَا فَوَّتَهُ عَلَيْهِ، فَوَّتَ عَلَيْهِ الْغَرَضَ الْمُتَعَلِّقَ بِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ، كَمَا لَوْ فَوَّتَ عَلَيْهِ صِفَةِ الْجَوْدَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى أَخْذِ النَّوْعِ بَدَلًا عَنْ النَّوْعِ الْآخَرِ، جَازَ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا، وَيُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ، فَجَازَ أَخْذُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ، كَالنَّوْعِ الْوَاحِدِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ؛ لِلْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَ لُزُومَ أَخْذِهِ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: لَا تَأْخُذْ فَوْقَ سَلَمَك فِي كَيْلٍ وَلَا صِفَةٍ.

وَلَنَا، أَنَّهُمَا تَرَاضَيَا عَلَى دَفْعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى دَفْعِ الرَّدِيءِ مَكَانَ الْجَيِّدِ، أَوْ الْجَيِّدِ مَكَانَ الرَّدِيءِ، وَبِهَذَا يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَخْذُ الرَّدِيءِ، وَيَجُوزُ أَخْذُهُ. وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ النَّوْعِ، فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا صِفَةُ الْجَوْدَةِ، وَقَدْ سَمَحَ بِهَا صَاحِبُهَا.

[فَصْلٌ جَاءَهُ بِالْأَجْوَدِ فَقَالَ خُذْهُ وَزِدْنِي دِرْهَمًا]

(٣٢٤٤) فَصْلٌ: إذَا جَاءَهُ بِالْأَجْوَدِ، فَقَالَ: خُذْهُ، وَزِدْنِي دِرْهَمًا. لَمْ يَصِحَّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي عَشَرَةٍ فَجَاءَهُ بِأَحَدِ عَشَرِ. وَلَنَا، أَنَّ الْجَوْدَةَ صِفَةٌ، فَلَا يَجُوزُ إفْرَادُهَا بِالْعَقْدِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، فَإِنْ جَاءَهُ بِزِيَادَةِ فِي الْقَدْرِ، فَقَالَ: خُذْهُ، وَزِدْنِي دِرْهَمًا. فَفَعَلَا، صَحَّ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ هَاهُنَا يَجُوزُ إفْرَادُهَا بِالْعَقْدِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>