للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: ٦] .

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي صَلَاحًا فِي أَمْوَالِهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إذَا كَانَ عَاقِلًا.

وَلِأَنَّ هَذَا إثْبَاتٌ فِي نَكِرَةٍ، وَمَنْ كَانَ مُصْلِحًا لِمَالِهِ فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ رُشْدٌ، وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ لَا تُعْتَبَرُ فِي الرُّشْدِ فِي الدَّوَامِ، فَلَا تُعْتَبَرُ فِي الِابْتِدَاءِ، كَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَلِأَنَّ هَذَا مُصْلِحٌ لِمَالِهِ، فَأَشْبَهَ الْعَدْلَ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إنَّمَا كَانَ لِحِفْظِ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَالْمُؤَثِّرُ فِيهِ مَا أَثَّرَ فِي تَضْيِيعِ الْمَالِ، أَوْ حِفْظِهِ.

وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْفَاسِقَ غَيْرُ رَشِيدٍ. قُلْنَا: هُوَ غَيْرُ رَشِيدٍ فِي دِينِهِ، أَمَّا فِي مَالِهِ وَحِفْظِهِ فَهُوَ رَشِيدٌ، ثُمَّ هُوَ مُنْتَقِضٌ بِالْكَافِرِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ رَشِيدٍ وَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَرَأَ الْفِسْقُ عَلَى الْمُسْلِمِ بَعْدَ دَفْعِ مَالِهِ إلَيْهِ، لَمْ يَزُلْ رُشْدُهُ، وَلَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الْعَدَالَةُ شَرْطًا فِي الرُّشْدِ، لَزَالَ بِزَوَالِهَا، كَحِفْظِ الْمَالِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَنْعِ قَبُولِ الْقَوْلِ مَنْعُ دَفْعِ مَالِهِ إلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ يُعْرَفُ بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ وَالْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ، أَوْ مِنْ يَأْكُلُ فِي السُّوقِ، وَيَمُدُّ رِجْلَيْهِ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ، وَأَشْبَاهِهِمْ. لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَتُدْفَعُ إلَيْهِمْ أَمْوَالُهُمْ.

إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْفَاسِقَ إنْ كَانَ يُنْفِقُ مَالَهُ فِي الْمَعَاصِي، كَشِرَاءِ الْخَمْرِ، وَآلَاتِ اللَّهْوِ، أَوْ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْفَسَادِ، فَهُوَ غَيْرُ رَشِيدٍ؛ لِتَبْذِيرِهِ لِمَالِهِ، وَتَضْيِيعِهِ إيَّاهُ فِي غَيْر فَائِدَةٍ. وَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، كَالْكَذِبِ، وَمَنْعِ الزَّكَاةِ، وَإِضَاعَةِ الصَّلَاةِ، مَعَ حِفْظِهِ لِمَالِهِ، دُفِعَ مَالُهُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَجْرِ حِفْظُ الْمَالِ، وَمَالُهُ مَحْفُوظٌ بِدُونِ الْحَجْرِ، وَلِذَلِكَ لَوْ طَرَأَ الْفِسْقُ بَعْد دَفْعِ مَالِهِ إلَيْهِ، لَمْ يُنْزَعْ مِنْهُ.

[فَصْلٌ يَعْرِف رُشْدُ الْيَتِيم بِأَخْبَارِهِ]

(٣٤٧٧) فَصْلٌ: وَإِنَّمَا يُعْرَفُ رُشْدُهُ بِاخْتِبَارِهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: ٦] . يَعْنِي اخْتَبِرُوهُمْ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: ٢] أَيْ يَخْتَبِرَكُمْ. وَاخْتِبَارُهُ بِتَفْوِيضِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَمْثَالُهُ إلَيْهِ؛ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ التُّجَّارِ فُوِّضَ إلَيْهِ الْبَيْعُ، وَالشِّرَاءُ، فَإِذَا تَكَرَّرَتْ مِنْهُ، فَلَمْ يَغِبْنَ، وَلَمْ يُضَيِّعْ مَا فِي يَدَيْهِ، فَهُوَ رَشِيدٌ.

وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الدَّهَاقِينِ، وَالْكُبَرَاءِ الَّذِينَ يُصَانُ أَمْثَالُهُمْ عَنْ الْأَسْوَاقِ، رُفِعَتْ إلَيْهِ نَفَقَةُ مُدَّةٍ، لِيُنْفِقهَا فِي مَصَالِحِهِ، فَإِنْ كَانَ قَيِّمًا بِذَلِكَ، يَصْرِفُهَا فِي مَوَاقِعِهَا، وَيَسْتَوْفِي عَلَى وَكِيلِهِ، وَيَسْتَقْصِي عَلَيْهِ، فَهُوَ رَشِيدٌ. وَالْمَرْأَةُ يُفَوَّضُ إلَيْهَا مَا يُفَوَّضُ إلَى رَبَّةِ الْبَيْتِ، مِنْ اسْتِئْجَارِ الْغَزَالَاتِ، وَتَوْكِيلِهَا فِي شِرَاءِ الْكَتَّانِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. فَإِنْ وُجِدَتْ ضَابِطَةً لِمَا فِي يَدَيْهَا، مُسْتَوْفِيَةً مِنْ وَكِيلِهَا، فَهِيَ رَشِيدَةٌ. وَوَقْتُ الِاخْتِبَارِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: ٦] .

فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ ابْتِلَاءَهُمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ، لِوَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ سَمَّاهُمْ يَتَامَى، وَإِنَّمَا يَكُونُونَ يَتَامَى قَبْلَ الْبُلُوغِ. وَالثَّانِي، أَنَّهُ مَدَّ اخْتِبَارَهُمْ إلَى الْبُلُوغِ بِلَفْظَةِ:

(حَتَّى) ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاخْتِبَارَ قَبْلَهُ، وَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الِاخْتِبَارِ إلَى الْبُلُوغِ مُؤَدٍّ إلَى الْحَجْرِ عَلَى الْبَالِغِ الرَّشِيدِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ يُخْتَبَرَ وَيُعْلَمَ رُشْدُهُ، وَاخْتِبَارُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>