للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ عَطَفَ عَلَى الْمُبْهَمِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، كَانَ تَفْسِيرًا لَهُ، وَإِنْ عَطَفَ مَذْرُوعًا أَوْ مَعْدُودًا، لَمْ يَكُنْ تَفْسِيرًا؛ لِأَنَّ عَلَيَّ لِلْإِيجَابِ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِنَفْسِهِ، كَانَ تَفْسِيرًا لَهُ كَقَوْلِهِ: مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا. وَلَنَا، أَنَّ الْعَرَبَ تَكْتَفِي بِتَفْسِيرِ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ عَنْ الْجُمْلَةِ الْأُخْرَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: ٢٥] .

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: ١٧] . وَلِأَنَّهُ ذُكِرَ مُبْهَمًا مَعَ مُفَسَّرٍ لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَكَانَ الْمُبْهَمُ مِنْ جِنْسِ الْمُفَسَّرِ، كَمَا لَوْ قَالَ: مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، أَوْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا. يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْمُبْهَمَ يَحْتَاجُ إلَى التَّفْسِيرِ، وَذِكْرُ التَّفْسِيرِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُقَارِنَةِ لَهُ يَصْلُحُ أَنْ يُفَسِّرَهُ، فَوَجَبَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا قَوْلُهُ: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: ٢٣٤] .

فَإِنَّهُ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْعَشْرُ أَشْهُرًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْعَشْرَ بِغَيْرِ هَاءٍ عَدَدٌ لِلْمُؤَنَّثِ، وَالْأَشْهَرُ مُذَكَّرَةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُعَدَّ بِغَيْرِهَا. الثَّانِي، أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أَشْهُرًا لَقَالَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. بِالتَّرْكِيبِ، لَا بِالْعَطْفِ، كَمَا قَالَ: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: ٣٠] .

وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْأَلْفَ مُبْهَمٌ. قُلْنَا قَدْ قَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَفْسِيرِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، أَوْ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ. عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا قَالَ: مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا. فَالدِّرْهَمُ ذُكِرَ لِلتَّفْسِيرِ، وَلِهَذَا لَا يَزْدَادُ بِهِ الْعَدَدُ، فَصَلَحَ تَفْسِيرُ الْجَمِيعِ مَا قَبْلَهُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: مِائَةُ دِرْهَمٍ.

فَإِنَّهُ ذَكَرَ الدِّرْهَمَ لِلْإِيجَابِ، لَا لِلتَّفْسِيرِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ زَادَ بِهِ الْعَدَدَ. قُلْنَا: هُوَ صَالِحٌ لِلْإِيجَابِ وَالتَّفْسِيرِ مَعًا، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى التَّفْسِيرِ، فَوَجَبَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى ذَلِكَ، صِيَانَةً لِكَلَامِ الْمُقِرِّ عَنْ الْإِلْبَاسِ وَالْإِبْهَامِ، وَصَرْفًا لَهُ إلَى الْبَيَانِ وَالْإِفْهَامِ. وَقَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ " عَلَيَّ " لِلْإِيجَابِ. قُلْنَا: فَمَتَى عُطِفَ مَا يَجِبُ بِهَا عَلَى مَا يَجِبُ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُبْهَمًا وَالْآخَرُ مُفَسَّرًا، وَأَمْكَنَ تَفْسِيرُهُ بِهِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُبْهَمُ مِنْ جِنْسِ الْمُفَسَّرِ، فَأَمَّا إنْ لَمْ يُمْكِنْ، مِثْلُ أَنْ يُعْطَفَ عَدَدُ الْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا مِنْ جِنْسِ الْآخَرِ، وَيَبْقَى الْمُبْهَمُ عَلَى إبْهَامِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ وَعَشْرٌ.

[مَسْأَلَة قَالَ لَهُ عِنْدِيّ عَشَرَةُ دَرَاهِم ثُمَّ قَالَ وَدِيعَةٌ]

(٣٨٥٧) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا قَالَ: لَهُ عِنْدِي عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. ثُمَّ قَالَ: وَدِيعَةٌ. كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ)

<<  <  ج: ص:  >  >>