للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الشَّفِيعَ اسْتَحَقَّ أَخْذَهُ بِغَيْرِ رِضَى مَالِكِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَتِهِ، كَالْمُضْطَرِّ يَأْخُذُ طَعَامَ غَيْرِهِ. قُلْنَا: الْمُضْطَرُّ اسْتَحَقَّ أَخْذَهُ بِسَبَبِ حَاجَةٍ خَاصَّةٍ، فَكَانَ الْمَرْجِعُ فِي بَدَلِهِ إلَى قِيمَتِهِ، وَالشَّفِيعُ اسْتَحَقَّهُ لِأَجْلِ الْبَيْعِ، وَلِهَذَا لَوْ انْتَقَلَ بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ الشُّفْعَةَ، وَإِذَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِالْعِوَضِ الثَّابِتِ بِالْبَيْعِ.

إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّا نَنْظُرُ فِي الثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ، أَعْطَاهُ الشَّفِيعُ مِثْلَهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَسْتَحِقُّ الشِّقْصَ بِقِيمَةِ الثَّمَنِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَبِهِ يَقُولُ أَصْحَابُ الرَّأْي، وَالشَّافِعِيُّ. وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَسَوَّارٍ، أَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَجِبُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ، وَهَذَا لَا مِثْلَ لَهُ فَتَعَذَّرَ الْأَخْذُ، فَلَمْ يَجِبْ، كَمَا لَوْ جَهِلَ الثَّمَنَ.

وَلَنَا، أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الثَّمَنِ، فَجَازَ أَنْ تَثْبُتَ بِهِ الشُّفْعَةُ فِي الْمَبِيعِ، كَالْمِثْلِيِّ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ يَكُونُ مِنْ طَرِيقِ الصُّورَةِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيمَةِ. كَبَدَلِ الْمُتْلِفِ، فَإِمَّا إنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ غَيْرِ الْأَثْمَانِ، كَالْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، فَهُوَ كَالْأَثْمَانِ. وَبِهِ يَقُولُ أَصْحَابُ الرَّأْي، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِثْلٌ مِنْ طَرِيقِ الصُّورَةِ وَالْقِيمَةِ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ الْمُمَاثِلِ فِي إحْدَاهُمَا، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ بَدَلُ الثَّمَنِ، فَكَانَ مِثْلَهُ، كَبَدَلِ الْقَرْضِ وَالْمُتْلَفِ.

[فَصْلٌ اسْتِحْقَاق الشَّفِيع الشِّقْصَ بِالثَّمَنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ]

(٤٠٥٣) فَصْلٌ: وَيَسْتَحِقُّ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِالثَّمَنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، فَلَوْ تَبَايَعَا بِقَدْرٍ، ثُمَّ غَيَّرَاهُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ، ثَبَتَ ذَلِكَ التَّغْيِيرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا تَمَّ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالثَّمَنِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ حَالَ اسْتِحْقَاقِهِ، وَلِأَنَّ زَمَنَ الْخِيَارِ بِمَنْزِلَةِ حَالَةِ الْعَقْدِ، وَالتَّغْيِيرُ يَلْحَقُ بِالْعَقْدِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمَا عَلَى اخْتِيَارِهِمَا فِيهِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي حَالِ الْعَقْدِ.

فَأَمَّا إذَا انْقَضَى الْخِيَارُ، وَانْبَرَمَ الْعَقْدُ، فَزَادَا أَوْ نَقَصَا، لَمْ يَلْحَقْ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَهُ هِبَةٌ يُعْتَبَرُ لَهَا شُرُوطُ الْهِبَةِ، وَالنَّقْصُ إبْرَاءٌ مُبْتَدَأٌ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَثْبُتُ النَّقْصُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ دُونَ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَا عِنْدَهُ مُلْحَقَانِ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَضُرُّ الشَّفِيعَ، فَلَمْ يَمْلِكْهَا، بِخِلَافِ النَّقْصِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ بَقِيَ مَا يَكُونُ ثَمَنًا أَخَذَ بِهِ، وَإِنْ حَطَّ الْأَكْثَرَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ.

وَلَنَا، أَنَّ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، كَالزِّيَادَةِ، وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ اسْتَحَقَّ الْأَخْذَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ التَّغْيِيرِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ التَّغْيِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهِ، كَالزِّيَادَةِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْعُذْرِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ لَحِقَ الْعَقْدَ لَزِمَ الشَّفِيعَ، وَإِنْ أَضَرَّ بِهِ، كَالزِّيَادَةِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَلِأَنَّهُ حَطٌّ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ، فَأَشْبَهَ حَطَّ الْجَمِيعِ أَوْ الْأَكْثَرِ عِنْدَ مَالِكٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>