للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِأَنَّهُ إنَّمَا وَهَبَهُ بَقِيَّةَ الشِّقْصِ عِوَضًا عَنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ جُزْءًا مِنْ الشِّقْصِ. وَفِي السَّادِسَةِ يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ الْمَوْهُوبِ.

وَفِي سَائِرِ الصُّوَرِ الْمَجْهُولِ ثَمَنُهَا يَأْخُذُهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ، أَوْ بِقِيمَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا، إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَوْجُودًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ عَيْنُهُ، دَفَعَ إلَيْهِ قِيمَةَ الشِّقْصِ؛ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ وُقُوعُ الْعَقْدِ عَلَى الْأَشْيَاءِ بِقِيمَتِهَا. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيُّ، يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَتَسْقُطُ بِهِ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ بِمَا وَقَعَ الْبَيْعَ بِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ حِيلَةٌ.

وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، وَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَسْبِقَ، فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَإِنْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ، فَهُوَ قِمَارٌ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، فَجَعَلَ إدْخَالَ الْفَرَسِ الْمُحَلَّلِ قِمَارًا، فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ إبَاحَةَ إخْرَاجِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَسَابِقَيْنِ جَعْلًا، مَعَ عَدَمِ مَعْنَى الْمُحَلَّلِ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ بِحَالٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَأْخُذَ سَبَقَيْهِمَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إبْطَالِ كُلِّ حِيلَةٍ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا إلَّا إبَاحَةَ الْمُحَرَّمِ. مَعَ عَدَمِ الْمَعْنَى فِيهَا.

وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَرْكَبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ.» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَّلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، وَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ الْمُخَادِعِينَ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: ٩] . وَالْحِيلَةُ مُخَادَعَةٌ، وَقَدْ مَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ قِرَدَةً بِحِيلَتِهِمْ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْصِبُونَ شِبَاكَهُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَحْفِرُ جِبَابًا، وَيُرْسِلُ الْمَاءَ إلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِذَا جَاءَتْ الْحِيتَانُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَقَعَتْ فِي الشِّبَاكِ وَالْجِبَابِ، فَيَدَعُونَهَا إلَى لَيْلَةِ الْأَحَدِ، فَيَأْخُذُونَهَا، وَيَقُولُونَ: مَا اصْطَدْنَا يَوْمَ السَّبْتِ شَيْئًا، فَمَسَخَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِحِيَلِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: ٦٦] قِيلَ: يَعْنِي بِهِ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أَيْ لِتَتَّعِظَ بِذَلِكَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَجْتَنِبُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمُعْتَدُونَ.

وَلِأَنَّ الْحِيلَةَ خَدِيعَةٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحِلُّ الْخَدِيعَةُ لِمُسْلِمٍ» . وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ وُضِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَلَوْ سَقَطَتْ بِالتَّحَيُّلِ، لَلَحِقَ الضَّرَرُ، فَلَمْ تَسْقُطْ، كَمَا لَوْ أَسْقَطَهَا الْمُشْتَرِي بِالْبَيْعِ وَالْوَقْفِ.

وَفَارَقَ مَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّحَيُّلُ، لِأَنَّهُ لَا خِدَاعَ فِيهِ، وَلَا قُصِدَ بِهِ إبْطَالُ حَقٍّ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. فَإِنْ اخْتَلَفَا هَلْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا حِيلَةً، أَوْ لَا؟ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ وَحَالِهِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْغَرَرَ فِي الصُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِشِرَائِهِ مَا يُسَاوِي عَشْرَةً بِمِائَةٍ، وَمَا يُسَاوِي

<<  <  ج: ص:  >  >>