للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَأْخُذَ عَلَيْهَا خَرَاجًا مَعْلُومًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وَأَنْكَرَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ حَدِيثَ رَافِعٍ عَلَيْهِ. فَكَيْفَ يَجُوزُ نَسْخُ أَمْرٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى مَاتَ وَهُوَ يَفْعَلُهُ، ثُمَّ أَجْمَعَ عَلَيْهِ خُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ بَعْدَهُ، بِخَبَرٍ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ، وَرُجُوعُ ابْنِ عُمَرَ إلَيْهِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي فَسَّرَهَا رَافِعٌ فِي حَدِيثِهِ

وَأَمَّا غَيْرُ ابْنِ عُمَرَ فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى رَافِعٍ، وَلَمْ يَقْبَلْ حَدِيثَهُ، وَحَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ غَلِطَ فِي رِوَايَتِهِ. وَالْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ النَّخِيلِ وَالشَّجَرِ يَعْجِزُونَ عَنْ عِمَارَتِهِ وَسَقْيِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا شَجَرَ لَهُمْ، وَيَحْتَاجُونَ إلَى الثَّمَرِ، فَفِي تَجْوِيزِ الْمُسَاقَاةِ دَفْعٌ لِلْحَاجَتَيْنِ، وَتَحْصِيلٌ لِمَصْلَحَةِ الْفِئَتَيْنِ، فَجَازَ ذَلِكَ، كَالْمُضَارَبَةِ بِالْأَثْمَانِ.

[مَسْأَلَةٌ الْمُسَاقَاةُ فِي النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَالْكَرْمِ]

مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: (وَتَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَالْكَرْمِ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ، يُجْعَلُ لِلْعَامِلِ مِنْ الثَّمَرِ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ. هَذَا قَوْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسَالِمٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ دَاوُد: لَا يَجُوزُ إلَّا فِي النَّخِيلِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا وَرَدَ بِهَا فِيهِ

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي النَّخِيلِ وَالْكَرْمِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي ثَمَرَتِهِمَا، وَفِي سَائِرِ الشَّجَرِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي نَمَائِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَا ثَمَرَةَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَزُفَرُ: لَا تَجُوزُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهَا إجَارَةٌ بِثَمَرَةٍ لَمْ تُخْلَقْ، أَوْ إجَارَةٌ بِثَمَرَةٍ مَجْهُولَةٍ، أَشْبَهَ إجَارَةَ نَفْسِهِ بِثَمَرَةٍ غَيْرِ الشَّجَرِ الَّذِي يَسْقِيه. وَلَنَا السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَلَا يَجُوزُ التَّعْوِيلُ عَلَى مَا خَالَفَهُمَا. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا إجَارَةٌ. غَيْرُ صَحِيحٍ، إنَّمَا هُوَ عَقْدٌ عَلَى الْعَمَلِ فِي الْمَالِ بِبَعْضِ نَمَائِهِ، فَهِيَ كَالْمُضَارَبَةِ، وَيَنْكَسِرُ مَا ذَكَرُوهُ بِالْمُضَارَبَةِ؛ فَإِنَّهُ يُعْمَلُ فِي الْمَالِ بِنَمَائِهِ، وَهُوَ مَعْدُومٌ مَجْهُولٌ، وَقَدْ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ

ثُمَّ قَدْ جَوَّزَ الشَّارِعُ الْعَقْدَ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ الْمَعْدُومَةِ لِلْحَاجَةِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ عَلَى الثَّمَرَةِ الْمَعْدُومَةِ لِلْحَاجَةِ، مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يَكُونُ فِي إلْحَاقِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، أَوْ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا فِي إبْطَالِ نَصٍّ، وَخَرْقِ إجْمَاعٍ بِقِيَاسِ نَصٍّ آخَرَ، فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالنَّخِيلِ، أَوْ بِهِ وَبِالْكَرْمِ، فَيُخَالِفُ عُمُومَ قَوْلِهِ: «عَامَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ زَرْعٍ أَوْ ثَمَرٍ» . وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ ثَمَرٍ، وَلَا تَكَادُ بَلْدَةٌ ذَاتُ أَشْجَارٍ تَخْلُو مِنْ شَجَرٍ غَيْرِ النَّخِيلِ، وَقَدْ جَاءَ فِي لَفْظِ بَعْضِ الْأَخْبَارِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ» ، وَلِأَنَّهُ شَجَرٌ يُثْمِرُ كُلَّ حَوْلٍ، فَأَشْبَهَ النَّخِيلَ وَالْكَرْمَ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْمُسَاقَاةِ عَلَيْهِ، كَالنَّخْلِ وَأَكْثَرِ؛ لِكَثْرَتِهِ، فَجَازَتْ الْمُسَاقَاةُ عَلَيْهِ كَالنَّخْلِ، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ لَيْسَ مِنْ الْعِلَّةِ الْمُجَوِّزَةِ لِلْمُسَاقَاةِ، وَلَا أَثَرَ لَهُ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ فِي مَا ذَكَرْنَاهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>