للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ خُذُوهَا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَمَلَ قَدْ يَكُونُ مَجْهُولًا، كَرَدِّ الْآبِقِ وَالضَّالَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا تَنْعَقِدُ الْإِجَارَةُ فِيهِ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى رَدِّهِمَا، وَقَدْ لَا يَجِدُ مَنْ يَتَبَرَّعُ بِهِ، فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى إبَاحَةِ بَذْلِ الْجُعْلِ فِيهِ، مَعَ جَهَالَةِ الْعَمَلِ

؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِجَارَةَ لَمَّا كَانَتْ لَازِمَةً، افْتَقَرَتْ إلَى تَقْدِيرِ مُدَّةٍ، وَالْعُقُودُ الْجَائِزَةُ كَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ لَا يَجِبُ تَقْدِيرُ مُدَّتِهَا، وَلِأَنَّ الْجَائِزَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَرْكُهَا، فَلَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَلْزَمَهُ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ اللَّازِمَةِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِذَا قَالَ: مَنْ رَدَّ عَلَيَّ ضَالَّتِي أَوْ عَبْدِي الْآبِقَ، أَوْ خَاطَ لِي هَذَا الْقَمِيصَ، أَوْ بَنَى لِي هَذَا الْحَائِطَ، فَلَهُ كَذَا وَكَذَا. صَحَّ، وَكَانَ عَقْدًا جَائِزًا، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ فِيهِ قَبْلَ حُصُولِ الْعَمَلِ. لَكِنْ إنْ رَجَعَ الْجَاعِلُ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِالْعَمَلِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِهِ، فَعَلَيْهِ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَمِلَ بِعِوَضٍ، فَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ

وَإِنْ فَسَخَ الْعَامِلُ قَبْلَ إتْمَامِ الْعَمَلِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ، حَيْثُ لَمْ يَأْتِ بِمَا شَرَطَ عَلَيْهِ الْعِوَضَ، وَيَصِيرُ كَعَامِلِ الْمُضَارَبَةِ إذَا فَسَخَ قَبْلَ ظُهُورِ الرِّبْحِ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَمَلِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى كَوْنِ الْعَمَلِ مَجْهُولًا، بِأَنْ لَا يَعْلَمَ مَوْضِعَ الضَّالَّةِ وَالْآبِقِ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى جَهَالَةِ الْعِوَضِ

وَالثَّانِي أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَصِيرُ لَازِمًا، فَلَمْ يَجِبْ كَوْنُهُ مَعْلُومًا، وَالْعِوَضُ يَصِيرُ لَازِمًا بِإِتْمَامِ الْعَمَلِ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ مَعْلُومًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجُوزَ الْجَعَالَةُ مَعَ جَهَالَةِ الْعِوَضِ إذَا كَانَتْ الْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي الْآبِقَ فَلَهُ نِصْفُهُ، وَمَنْ رَدَّ ضَالَّتِي فَلَهُ ثُلُثُهَا. فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ: إذَا قَالَ الْأَمِيرُ فِي الْغَزْوِ: مَنْ جَاءَ بِعَشَرَةِ رُءُوسٍ فَلَهُ رَأْسٌ. جَازَ وَقَالُوا: إذَا جَعَلَ جُعْلًا لِمَنْ يَدُلُّهُ عَلَى قَلْعَةٍ، أَوْ طَرِيقٍ سَهْلٍ، وَكَانَ الْجُعْلُ مِنْ مَالِ الْكُفَّارِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا، كَجَارِيَةٍ يُعَيِّنُهَا الْعَامِلُ

فَيُخَرَّجُ هَاهُنَا مِثْلُهُ. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْجَهَالَةُ تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ، لَمْ تَصِحَّ الْجَعَالَةُ، وَجْهًا وَاحِدًا. وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مَعْلُومًا، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي مِنْ الْبَصْرَةِ، أَوْ بَنَى لِي هَذَا الْحَائِطَ، أَوْ خَاطَ قَمِيصِي هَذَا، فَلَهُ كَذَا صَحَّ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ مَعَ الْجَهَالَةِ فَمَعَ الْعِلْمِ أَوْلَى. وَإِنْ عَلَّقَهُ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، فَقَالَ: مَنْ رَدَّ لِي عَبْدِي مِنْ الْعِرَاقِ فِي شَهْرٍ، فَلَهُ دِينَارٌ. أَوْ مَنْ خَاطَ قَمِيصِي هَذَا فِي الْيَوْمِ، فَلَهُ دِرْهَمٌ. صَحَّ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ إذَا جَازَتْ مَجْهُولَةً، فَمَعَ التَّقْدِيرِ أَوْلَى

فَإِنْ قِيلَ: الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْإِجَارَةِ، فَكَيْفَ أَجَزْتُمُوهُ فِي الْجَعَالَةِ؟ قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُوهٍ، أَحَدُهَا أَنَّ الْجَعَالَةَ يُحْتَمَلُ فِيهَا الْغَرَرُ، وَتَجُوزُ مَعَ جَهَالَةِ الْعَمَلِ وَالْمُدَّةِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>