للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَنَقَلَ حَنْبَلٌ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ: لَا تُعْطِي مُكَاتَبًا لَك مِنْ الزَّكَاةِ. قَالَ: وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: وَأَنَا أَرَى مِثْلَ ذَلِكَ.

وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ: أَيُعْطَى الْمُكَاتَبُ مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: الْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ، فَكَيْفَ يُعْطَى؟ وَمَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لَا يُعْطِي مُكَاتَبَهُ مِنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ وَمَالُهُ، يَرْجِعُ إلَيْهِ إنْ عَجَزَ، وَإِنْ عَتَقَ فَلَهُ وَلَاؤُهُ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِمُكَاتَبِهِ، وَلَا شَهَادَةُ مُكَاتَبِهِ لَهُ.

[مَسْأَلَةٌ الْإِعْتَاق مِنْ الزَّكَاة]

مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يُعْتَقُ مِنْهَا. اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي جَوَازِ الْإِعْتَاقِ مِنْ الزَّكَاةِ، فَرُوِيَ عَنْهُ جَوَازُ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَالْعَنْبَرِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، لِعُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: ٦٠] . وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِلْقِنِّ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ، فَإِنَّ الرَّقَبَةَ إذَا أُطْلِقَتْ انْصَرَفَتْ إلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: ٩٢] . وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ، وَفِي إعْتَاقِ الرِّقَابِ

وَلِأَنَّهُ إعْتَاقٌ لِلرَّقَبَةِ، فَجَازَ صَرْفُ الزَّكَاةِ فِيهِ، كَدَفْعِهِ فِي الْكِتَابَةِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، لَا يَجُوزُ. وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي صَرْفَ الزَّكَاةِ إلَى الرِّقَابِ، كَقَوْلِهِ: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: ١٥٤] يُرِيدُ الدَّفْعَ إلَى الْمُجَاهِدِينَ، كَذَلِكَ هَا هُنَا. وَالْعَبْدُ الْقِنُّ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ شَيْءٌ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ: قَدْ كُنْت أَقُولُ: يُعْتَقُ مِنْ زَكَاتِهِ، وَلَكِنْ أَهَابُهُ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ الْوَلَاءَ. وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ، قِيلَ لَهُ: فَمَا يُعْجِبُكَ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: يُعِينُ مِنْ ثَمَنِهَا، فَهُوَ أَسْلَمُ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ النَّخَعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: لَا يُعْتَقُ مِنْ الزَّكَاةِ رَقَبَةٌ كَامِلَةٌ، لَكِنَّ يُعْطِي مِنْهَا فِي رَقَبَةٍ، وَيُعِينُ مُكَاتَبًا.

وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ مِنْ زَكَاتِهِ، انْتَفَعَ بِوَلَاءِ مَنْ أَعْتَقَهُ، فَكَأَنَّهُ صَرَفَ الزَّكَاةَ إلَى نَفْسِهِ. وَأَخَذَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، أَنَّ أَحْمَدَ رَجَعَ عَنْ الْقَوْلِ بِالْإِعْتَاقِ مِنْ الزَّكَاةِ. وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مِنْ أَحْمَدَ إنَّمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ، فَلَا يَقْتَضِي رُجُوعًا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي تَمَلَّكَ بِهَا جَرُّ الْوَلَاءِ، وَمَذْهَبُهُ أَنَّ مَا رَجَعَ مِنْ الْوَلَاءِ رُدَّ فِي مِثْلِهِ، فَلَا يَنْتَفِعُ إذًا بِإِعْتَاقِهِ مِنْ الزَّكَاةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>