للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فَصْلٌ شَرْطٌ النِّيَّة فِي صِحَّةِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ]

(٦٢٢٩) فَصْلٌ: وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْكَفَّارَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . وَلِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ مُتَبَرَّعًا بِهِ، وَعَنْ كَفَّارَةٍ أُخْرَى، أَوْ نَذْرٍ، فَلَمْ يَنْصَرِفْ إلَى هَذِهِ الْكَفَّارَةِ إلَّا بِنِيَّةٍ، وَصِفَتُهَا أَنْ يَنْوِيَ الْعِتْقَ، أَوْ الصِّيَامَ، أَوْ الْإِطْعَامَ عَنْ الْكَفَّارَةِ، فَإِنْ زَادَ الْوَاجِبَةَ كَانَ تَأْكِيدًا، وَإِلَّا أَجْزَأَتْ نِيَّتُهُ الْكَفَّارَةَ. وَإِنْ نَوَى وُجُوبَهَا، وَلَمْ يَنْوِ الْكَفَّارَةَ، لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَنَوَّعُ عَنْ كَفَّارَةٍ وَنَذْرٍ، فَوَجَبَ تَمْيِيزُهُ. وَمَوْضِعُ النِّيَّةِ مَعَ التَّكْفِيرِ، أَوْ قَبْلَهُ بِيَسِيرٍ. وَهَذَا الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُجْزِئُ حَتَّى يَسْتَصْحِبَ النِّيَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ صِيَامًا اُشْتُرِطَ نِيَّةُ الصِّيَامِ عَنْ الْكَفَّارَةِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ؛ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» . وَإِنْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَاتٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، لَمْ يَجِبْ تَعْيِينُ سَبَبِهَا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا. فَعَلَى هَذَا، لَوْ كَانَ مُظَاهِرًا مِنْ أَرْبَعِ نِسَاءٍ، فَأَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ ظِهَارِهِ، أَجْزَأَهُ عَنْ إحْدَاهُنَّ، وَحَلَّتْ لَهُ وَاحِدَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَأَجْزَأَتْهُ نِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ، فَتَخْرُجَ بِالْقُرْعَةِ الْمُحَلَّلَةُ مِنْهُنَّ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى أَيَّتِهِنَّ شَاءَ، فَتَحِلُّ. وَهَذَا يُفْضِي إلَى أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ كَوْنِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ مُحَلَّلَةً لَهُ، أَوْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ.

وَإِنْ كَانَ الظِّهَارُ مِنْ ثَلَاثِ نِسْوَةٍ، فَأَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ إحْدَاهُنَّ، ثُمَّ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عَنْ أُخْرَى، ثُمَّ مَرِضَ، فَأَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا عَنْ أُخْرَى، أَجْزَأَهُ، وَحَلَّ لَهُ الْجَمِيعُ، مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ وَلَا تَعْيِينٍ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، فَمَنْ تَقَعُ لَهَا الْقُرْعَةُ، فَالْعِتْقُ لَهَا، ثُمَّ يُقْرِعُ بَيْنَ الْبَاقِيَتَيْنِ، فَمَنْ تَقَعُ لَهَا الْقُرْعَةُ فَالصِّيَامُ لَهَا، وَالْإِطْعَامُ عَنْ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ لَوْ انْفَرَدَتْ، احْتَاجَتْ إلَى قُرْعَةٍ، فَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَتْ. وَلَنَا أَنَّ التَّكْفِيرَ قَدْ حَصَلَ عَنْ الثَّلَاثِ، وَزَالَتْ حُرْمَةُ الظِّهَارِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى قُرْعَةٍ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ عَنْ ظِهَارِهِنَّ دَفْعَةً وَاحِدَةً. فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ مِنْ أَجْنَاسٍ؛ كَظِهَارٍ، وَقَتْلٍ، وَجِمَاعٍ فِي رَمَضَانَ، وَيَمِينٍ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَفْتَقِرُ إلَى تَعْيِينِ السَّبَبِ.

وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَاجِبَةٌ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ صِحَّةُ أَدَائِهَا إلَى تَعْيِينِ سَبَبِهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ يَشْتَرِطَ تَعْيِينَ سَبَبِهَا، وَلَا تُجْزِئُ نِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ. وَحَكَاهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَنْ أَحْمَدَ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةِ؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ، فَوَجَبَ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهُمَا، كَمَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمٌ مِنْ قَضَاءٍ وَنَذْرٍ،

<<  <  ج: ص:  >  >>