للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: مَنْ قَطَعَ يَدَ ذِمِّيٍّ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ، ضَمِنَهُ بِدِيَةِ ذِمِّيٍّ، وَلَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ، فَأَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ وَمَاتَ، فَعَلَى الْجَانِي قِيمَتُهُ لِلسَّيِّدِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقِصَاصِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْجِنَايَةِ، دُونَ حَالِ السِّرَايَةِ، فَكَذَلِكَ الدِّيَةُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ سِرَايَةَ الْجُرْحِ مَضْمُونَةٌ، فَإِذَا أَتْلَفَتْ حُرًّا مُسْلِمًا، وَجَبَ ضَمَانُهُ بِدِيَةٍ كَامِلَةٍ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِجُرْحٍ ثَانٍ.

وَقَوْلُ أَحْمَدَ، فِي مَنْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ: عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلسَّيِّدِ. لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ الزَّائِدِ عَلَى الْقِيمَةِ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ لِلْوَرَثَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحْمَدُ. وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ مُقَدَّرٌ بِمَا تُفْضِي إلَيْهِ السِّرَايَةُ دُونَ مَا تُتْلِفُهُ الْجِنَايَةُ بِدَلِيلِ أَنَّ مِنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، فَسَرَى الْقَطْعُ إلَى نَفْسِهِ، لَمْ يَلْزَمْ الْجَانِيَ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ، وَلَوْ قَطَعَ إصْبَعًا، فَسَرَى إلَى نَفْسِهِ، لَوَجَبَتْ الدِّيَةُ كَامِلَةٌ، فَكَذَلِكَ إذَا سَرَتْ إلَى نَفْسِ حُرٍّ مُسْلِمٍ، تَجِبُ دِيَتُهُ كَامِلَةً. فَأَمَّا إنْ جَرَحَ مُرْتَدًّا، أَوْ حَرْبِيًّا فَسَرَى الْجُرْحُ إلَى نَفْسِهِ، فَلَا قِصَاصَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ، سَوَاءٌ أَسْلَمَ قَبْلَ السِّرَايَةِ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ غَيْرُ مَضْمُونٍ، فَلَمْ يَضْمَنْ سِرَايَتَهُ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا.

[فَصْلٌ قَطَعَ يَدَ مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ ثُمَّ مَاتَ بِسِرَايَةِ الْجُرْحِ]

(٦٥٩٥) فَصْلٌ: وَلَوْ قَطَعَ يَدَ مُسْلِمٍ فَارْتَدَّ، ثُمَّ مَاتَ بِسِرَايَةِ الْجُرْحِ، لَمْ يَجِبْ فِي النَّفْسِ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ؛ لِأَنَّهَا نَفْسُ مُرْتَدٍّ غَيْرِ مَعْصُومٍ وَلَا مَضْمُونٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يَدَ ذِمِّيٍّ فَصَارَ حَرْبِيًّا، ثُمَّ مَاتَ مِنْ جِرَاحِهِ. وَأَمَّا الْيَدُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهَا. وَذَكَرِ الْقَاضِي وَجْهًا فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ بِانْقِطَاعِ حُكْمِ سِرَايَتِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ، أَوْ جَاءَ آخَرُ فَقَتَلَهُ، وَلِلشَّافِعِي فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ قَوْلَانِ.

وَلَنَا، أَنَّهُ قَطْعٌ هُوَ قَتْلٌ لَمْ يَجِبْ بِهِ الْقَتْلُ، فَلَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ، كَمَا لَوْ قَطَعَ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ، وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْقَطْعَ لَمْ يَصِرْ قَتْلًا. وَهَلْ تَجِبُ دِيَةُ الطَّرَفِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَتْلٌ لِغَيْرِ مَعْصُومٍ. وَالثَّانِي: تَجِبُ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ حُكْمِ سِرَايَةِ الْجُرْحِ لَا يُسْقِطَ ضَمَانَهُ، كَمَا لَوْ قَطَعَ طَرَفَ رَجُلٍ، ثُمَّ قَتَلَهُ آخَرُ. فَعَلَى هَذَا، هَلْ يَجِبُ ضَمَانُهُ بِدِيَةِ الْمَقْطُوعِ، أَوْ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ دِيَتِهِ أَوْ دِيَةِ النَّفْسِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: تَجِبُ دِيَةُ الْمَقْطُوعِ، فَلَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَمَاتَ، فَفِيهِ دِيَتَانِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ قَطَعَتْ حُكْمَ السِّرَايَةِ، فَأَشْبَهَ انْقِطَاعَ حُكْمِهَا بِانْدِمَالِهَا، أَوْ بِقَتْلِ آخَرَ لَهُ. وَالثَّانِي: يَجِبُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْتَدَّ لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ، فَمَعَ الرِّدَّةِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ قَطْعٌ صَارَ قَتْلًا، فَلَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْتَدَّ، وَفَارَقَ أَصْلَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَصِرْ قَتْلًا؛

<<  <  ج: ص:  >  >>